قرأت فى منتصف الشهر الماضى خبرين مثيرين للضحك ndash; ولم أستطع التعليق عليهما فى وقته لأسباب قاهرة- وشعرت عند قراءتهما كما لو كنت أقرأ فى مجلة قرندل أو حبزبوز فى الأربعينات من القرن الماضي. وبعد أن (شبعت) ضحكا إنتابنى الحزن على ما وصلنا اليه فى العراق من تدنى فى القيم الإنسانية، فأصبح رجل الدين ينطق بما لا يعلم ويتدخل فيما لا يعنيه، والسياسي أصبح يكذب بملء فيه مقلدا (غوبلز) وزير دعاية هتلر الذى قال: اكذب واكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس.

الخبر الأول عن طلب الحكومة العراقية أن يذهب المتظاهرون الى ملعب الشعب والزوراء إذا شاؤوا التظاهر حفاظا على سلامتهم ومنعا لإغلاق الشوارع وما يتبعها من اختناق المرور وتعطيل الأعمال. وعارض ذلك السيد مقتدى الصدر، الذى اعترف أكثر من مرة بأنه لم يكمل دراسته الدينية ولم يصل الى رتبة مجتهد، ومع ذلك يتصرف على أنه المرجع الأعلى للشيعة والمرجع الأعلى للسياسيين العراقيين. أذكر جيدا أنه قبل بضع سنين أفتى بتحريم كرة القدم لأنها ndash;كما قال- تلهى الناس عن العبادة وذكر الله، وحرم الألعاب التى يكشف فيها اللاعبون عن سيقانهم لأنها تثير فى المؤمنين الشهوات!. ثم يحرض الناس على المظاهرات (المليونية) ويطلب من (المؤمنين) أن يكونوا على أهبة الاستعداد للمقاومة ضد الوجود الأمريكي فى العراق، ولا أظنه يراعى مصلحة العراق كما يراعى مصلحة ايران.

استفحل الفقر والجهل فى العراق منذ أن هاجم (حارس البوابة الشرقية) ايران وأعلنها حربا هوجاء حمقاء استمرت ثمانى سنوات كلفت العراق وايران أكثر من مليون قتيل وأضعاف ذلك من الجرحى واليتامى والأرامل، ودمرت البنية التحتية للبلد التعيس،، ولم يكتف الطاغية بذلك إذ اجتاح جنوده الكويت مما سبب مجيء القوات الأمريكية وحلفائها من الشرق والغرب، ودمرت صواريخهم ما تبقى من مظاهر الحضارة فى بلاد الرافدين وخربت محطات الكهرباء ومضخات المياه والمصانع والجسور وعاد العراق ndash;كما تعهد بوش الأب- الى العصر الحجري. ونسي السيد مقتدى ذلك وبدأ يلوم الحكم الجديد بعدم توفير الكهرباء، وهو الذى كان جيشه (المهدي) يشارك فى التخريب والقتل على الهوية، وإلزام (المؤمنين وغير المؤمنين) على دفع بدل حماية كما كانت تفعل عصابات المافيا فى أمريكا، واستمر على ذلك حتى تمكن الجيش العراقي وبمساعدة الأمريكان من دحر جنوده فى البصرة فهرب الى ايران مدعيا أنه يريد إكمال دراسته الدينية.

ساد الهدوء بعض الشيء فى العراق وكادت الأعمال الاجرامية تقتصر على أتباع القاعدة الارهابية والهارب حارث الضاري، ودأبوا على تخريب كل ما تبنيه الدولة، فغادر المقاولون ورجال الأعمال والمستثمرون ولم يعد فى الامكان اصلاح البلد بالسرعة المطلوبة. وتفشى الفساد فى كل مرافق الدولة تقريبا، وظهرت طبقة مشبوهة من الأغنياء، وهرب بعض الموظفين مع ملايين لا تحصى من الدولارات غير آبهين بما أصاب المواطنين من جوع وإملاق. وازداد تذمر الناس وفقد بعضهم الأمل من الحصول على لقمة العيش الحلال فباعوا أنفسهم الى القاعدة والمليشيات بأنواعها وأشكالها. وعند اليأس يشتد تمسك الناس بالدين وخاصة عندما يكون مشفوعا بالدنانير، فوجد فقراء مدينة الثورة (الصدر) فى مقتدى منقذا لهم من بؤسهم، فأعطوه أربعين مقعدا فى البرلمان بدلا من الثلاثين فى الانتخابات السابقة.

وكان السيد مقتدى قد صرح للصحفيين على طلب المسؤولين بالتظاهر فى الملاعب بدلا من ساحة التحرير بلغة ركيكة كالعادة قائلا:(( قد تتحجج (الحكومة) بالوضع التجاري (...) اقول تقديم مصالح المتظاهرين اولى ام المحال التجارية ام ماذا؟)). ربما لا يعرف الصدر أن الباعة على الأرصفة ينتظرون حلول الجمعة ليكسبوا ما يسد رمق عوائلهم وليس لهم مصدر آخر كالخمس وغيره. والساحة نفسها تقع فى مفترق عدة طرق حيوية وإغلاقها للتظاهر يعيق السير وضرر ذلك أكثر مما يتصور السيد.

واضاف الصدر ان ((التظاهرات في الملاعب قد تؤدي الى اتلافها بالتأكيد وهذا غير مرض.. هذه الاماكن معدة لامور خاصة تتنافى مع التظاهر السلمي))، وللمرء أن يتساءل : كيف تتلف الملاعب بالمظاهرات؟ وما معنى الأمور الخاصة التى يقصدها السيد؟ ومتى كان السيد حريصا على الرياضة والملاعب التى تلهى عن ذكر الله كما يقول؟

أما الخبر الثاني فهو حول قلق العالم كله من المالكي، فقد ظننت عند قراءة عنوان تصريح العضو فى ائتلاف العراقية ميسون الدملوجي بأن المالكي قد كشف عن حوزته على أسلحة الدمار الشامل، أو عن صواريخ بالستية عابرة القارات، ولكنى وجدت التصريح كما قرأته :( ان ادارة رئيس الوزراء المالكي لثلاث وزارات أمنية إضافة الى جهاز المخابرات لا يثير قلق العراقيين فقط بل الدول الاقليمية والعالم)!!. هل سمع أحد ان دولة من الدول قد أعربت عن القلق المزعوم؟

القائمة العراقية تطلع علينا فى كل يوم بمزاعم وتهديدات متشنجة، الغاية منها زعزعة الحكومة الحالية والتى هى نفسها جزء منها، فى الوقت الذى فازت فيه باثنين وتسعين مقعدا فقط من مجموع 325 مقعدا، أي أقل من ثلث المقاعد وهذا لا يؤهلها لتشكيل حكومة، ولو فعلت لحجبت عنها الثقة وسقطت فى أول جلسة للبرلمان. وهذا الأمر ليس سرا ولا يجهله قادة القائمة. ولو كانوا وطنيين حقا لفسحوا المجال للمالكي للقيام بعمله بدلا من معاكسته وإضاعة وقته فيما لا طائل منه، بالإضافة الى ترويج الأكاذيب واتهامه بأمور لاعلاقة له فيها.

وقرأت أيضا: (وصفت القائمة العراقية، الثلاثاء، اقتحام معسكر أشرف من قبل قوات مكافحة الشغب بغير المبرر، معتبرة العملية جاءت من قبل أجهزة مرتبطة برئيس الوزراء، لإلهاء الشارع العراقي والمحيط الدولي عما يحدث في العراق من إخفاق في قضية الـ100 يوم التي حددها رئيس الوزراء.). رئيس الوزراء لم يقل أنه سيجعل من العراق جنة الخلد خلال مئة يوم كما تحاول العراقية إيهام الناس، بل كان تحذيرا للوزراء مطالبا بتقديمهم كشفا عن مدى جديتهم وكفاءاتهم بإعادة بناء البلد خلال تلك الفترة وإن لم يفعلوا فسيعزلون من مناصبهم.

كما ونشرت الجرائد المحلية والعالمية بيانا للقائمة العراقية طالبت من خلاله الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية بالتدخل الفوري بحماية اللاجئين الايرانيين فى مخيم أشرف. إن القائمة تطالب من جهة بإخراج الأمريكيين من العراق، ومن الجهة الأخرى تطلب من الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية بالتدخل في شؤون الدولة العراقية لحماية أغراب أدخلهم الى العراق النظام البعثي نكاية بدولة جارة تربطنا معها روابط اقتصادية لا يستطيع العراق الاستغناء عنها من أجلهم وهم الذين ساعدوا الحكم المباد على الفتك بالشعب العراقي. وتتصرف هذه الحفنة من المغامرين وكأن العراق ملك يمينها، وترفض المغادرة قبل نهاية السنة الحالية حسب طلب الحكومة منها التى تعهدت بعدم تسليمهم الى ايران ومساعدتهم فى الذهاب الى أي بلد يشاؤون ويقبلهم.

أهذه هى الوطنية التى تتشدق بها العراقية؟ تستعدون الأجانب على أبناء بلدكم؟ إن العراقيين يعرفون جيدا من هم الذين يعرقلون إعادة إعمار البلد بإشغال الحكومة بأمور ثانوية تافهة وكل غرضهم هواستلام الحكم بأي ثمن وأية وسيلة. لقد صدعوا رؤوسنا بما أطلقوا عليه (الاستحقاق الانتخابي) سابقا، واليوم لا حديث لهم الا عن مؤتمر أربيل ومبادرة البارزاني وحكومة الشراكة الوطنية. فقد ذكرت (السومرية نيوز) يوم الأحد 8/5/2011:
هددت القائمة العراقية بزعامة إياد علاوي، الأحد، بالانسحاب من العملية السياسية في حال التصويت على مرشحي المالكي لشغل حقائب الوزارات الأمنية، معتبرة تقديم المالكي للمرشحين تنصلا من اتفاق أربيل وللقائمة العراقية الحق الكامل وفق التوافق السياسي بأن ترشح من تراه مناسبا لشغل منصب وزير الدفاعquot;، مبينا أن quot;مسالة اختيار رئيس الوزراء مجموعة أسماء لشغل الحقائب الأمنية ومن ضمنها شخص يشغل منصب وزير الدفاع خصوصا وأنه لم ترشحه العراقية، هو أمر مرفوض. وكان رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي أعلن خلال مؤتمر صحافي عقده، في الخامس من أيار الحالي، عن وصول أسماء مرشحي الوزارات الأمنية إلى البرلمان، مبيناً أنه ستتم مناقشتها وإدراجها في جدول أعمال المجلس خلال الجلسات المقبلة.

وصرح السيد نبيل حربو الناطق عن العراقية أن quot;قائمته سترفض التصويت على مرشحي المالكي رفضا قاطعاquot;، مشيرا إلى أن quot;المسالة وصلت إلى درجة لا تطاق، خصوصا بعد عرقلة ترشيح نواب لرئيس الجمهورية وعملية اختيار مناصب للوزارات الأمنية، وهذا يعني التنصل من الاتفاق السياسي الذي تم في أربيلquot;، بحسب تعبيره.)).
وقرأت اليوم 15\5\2011 فى السومرية نيوز تصريحا لهانى عاشور مستشار القائمة العراقية جاء فيه:
(وأعتبر مستشار العراقية أن quot;الخطر الحقيقي الذي يتهدد العراق هو عندما تكون السلطة أقوى من الشعب، فيما يسعى البرلمان وأعضاؤه الممثلون للشعب إلى أن يكون أداة الشعب للدفاع عن حقوقه ومنع مصادرتها من قبل السلطةquot;، مؤكدا أن quot;قوة البرلمان أرعبت الكثير من المفسدين والمناورين فقاموا بشن هجمات لإضعاف البرلمان قبل نهاية مهلة المائة يوم وهي مناورة مكشوفة وفاشلة)!.

ترى أي برلمان يتحدث عنه عاشور؟ البرلمان الذى يستلم كل عضو من أعضائه مبالغ خيالية ترهق الميزانية، ويحاور ويداور ويرفض تخفيض تلك الرواتب والمخصصات ؟ البرلمان الذى صادقت أغلبيته على تعيين 3 نواب لرئيس الجمهورية وهم لا شغل لهم إلا قبض الرواتب والمخصصات، (علما بأن رئيس الولايات المتحدة له نائبا واحدا فقط)؟ أم البرلمان الذى يسرع أعضاؤه لحضور الاجتماع إذا كان فيه منفعة شخصية لهم ويتباطئون عن الحضور لأمور فيها منفعة للشعب ؟ لو كان شعبنا المسكين واعيا بما فيه الكفاية لما صوت للكثيرين من أعضاء هذا البرلمان.

لقد أبدع الشابي فى قصيدته التى مطلعها : (إذا الشعب يوما أراد الحياة..) ولكن هذا لا ينطبق على شعبنا المشغول بالتناحر الديني والقومي والسياسي ولا يفكر بالحياة، وقادته الميامين يتنازعون على الكراسي ويحقد بعضهم على البعض الآخر ويسخفه وينعته بأسوأ النعوت، ولا يجدون إلا النزر اليسير من الوقت لإصلاح البلد المخرب وشعبه الذى خيم عليه الجهل، وأضناه الفقر، وأقعده المرض، واستولى عليه اليأس فلم يعد يبالى بما يدور حوله ولم يعد قادرا على التمييز بين ما يضره وما ينفعه، ولن تنقذه إلا معجزة.