يمر اليمن بمنعطف تاريخي حاسم تُطوى فيه سجلاتٌ مثقلةٌ بالأحداث المتتالية والتداعيات المتلاحقة شكلت في معظمها محطات كل واحدة منها تستحق التوقف عندها للدراسة والتمحيص ليس هنا مكانها لكن سيفرد لها التاريخ فصولا في المستقبل يعالجها من جميع زواياها... هذا المنعطف سيفتح أيضا سجلا ملؤه الأمل الذي يحدو الشباب والأجيال القادمة ويؤسس لدولة مدنية مبنية على مبادئ سامية للمواطنة المتساوية والتداول السلمي للسلطة عبر طرق ديموقراطية حقيقية لا زائفة، وفق أسس ومبادئ تشكل في مجموعها وثيقة وطنية ترتضيها كل مكونات العمل السياسي والاجتماعي.

ولعل هبة الشباب والشعب بأكمله وإصرارهم على تحقيق امالهم وأهدافهم تعكس مدى الوعي الذي رسخ في أذهانهم وإيمانهم العميق بمشروعية مطالبهم المتمثلة برحيل نظام جثم على صدور اليمنيين بأعبائه الثقيلة وسياساته الخادعة، ودأب على وأد إبداعاتهم، وما زال يسعى جاهدا للاستمرار في الوقوف حائلا أمام تطلعاتهم ومستقبلهم الذي يحلمون به.

ما يعتمل اليوم في ساحات التغيير وميادين الحرية منذ فبراير الماضي يثير الدهشة والاعجاب والفخر والاعتزاز، حقق الثوار خلال هذه الفترة انجازات ونجاحات كانت من قبيل الاماني والاحلام، فأعادوا إحياء منظومة القيم التي غابت عقودا من الزمن بفعل الحماقات الممارسة والسياسات المتبعة، وأعادوا تشكيل نواة لملامح الدولة المدنية القادمة وهويتها، وأذابوا كل التوجهات والاهداف في بوتقة واحدة تاركين كل الخلفيات الايديولوجية والفكرية والقبلية والفئوية وراء ظهورهم ليجمعهم سقف وشعار وعلم واحد.

لقد نجح أولئك الثوار في شل الجسد العليل ومنظومته الفاسدة المتمثلة في النظام، ليكون ذلك النظام من الناحية العملية في حكم المنهار أو قل إن شئت فاقدا للتوازن.. فهناك بقايا شبه حكومة، ومجلس نواب يعقد بثلث أعضائه، وحزب خارت قواه فلم يعد يقوى على الوقوف على قدميه، ومحافظات لم تعُد يدُ النظام تصل إليها باستثناء مملكة السبعين ( دار الرئاسة وما حولها والتي تقدر بحوالي بـ30 كيلومتر مربع ) وبالتالي لم يتبق من هذا النظام إلا الرأس الذي نخر السوس في أعماقه وأوهنه صمود أولئك الابطال وكبرياؤهم وشجاعتهم النادرة والذين حطموا كل الاسوار وأزالوا كل الاشواك التي نُصبت أمامهم لتعوق سيرهم...

لقد حققت الثورة اليمنية إلى الان أهدافا لم يكن يتخيلها أو يطمح إليها أحد، فألغوا إلى الأبد مشاريع كانت مطروحة وبقوة رغما عن أنف كل يمني تتمثل في مشروعي التمديد والتوريث... جعلتنا الثورة نشهد اصطفافا جماهيريا وشعبيا منقطع النظير ضم كل أطياف العمل السياسي والاجتماعي ومختلف المنظمات والفعاليات الثقافية والفنية والسياسية والقبلية... حققت الثورة الوحدة الحقيقية بين اليمنيين لتكون حقيقة واضحة وواقعا معاشا لا كلاما مستهلكا يردد عبر أبواق عتيقة، فأصبح المواطن في عدن والمهرة ينتفض حينما يرى أخاه يهان في صنعاء، وينطلق ابن صعدة وحجة لنجدة أخٍ لهم في ابين وشبوة طالته يدُ النظام بالسوء، ويتوجع الحضرمي ويتألم حينما يضرب ابن تعز والبيضاء... أظهرت الثورة المباركة كنوزا ودررا متنوعة من الابداعات الرائعة التي دفنها النظام في الوحل، فتفجرت قرائح الشعراء، وانتفضت ريش الرسامين والتشكيليين، وصدحت حناجر الفنانين المبدعين، وبرزت كوكبة من الموهوبين في شتى مجالات الابداع... نجحت الثورة في أن تثبت للعالم أجمع زيف هذا النظام وخداعه طيلة فترة حكمه تمثل في المراوغة والتلاعب في اختلاق الأزمات والكروت الزائفة التي يدير بها البلاد بل ويتسول من خلالها في كل المحافل الدولية... نجحت في التصدي لكل المحاولات اليائسة في جر الشعب إلى دائرة العنف والصراع فحافظت على سلميتها - وستستمر- رغم حجم المعانات والتضحيات التي قُدمت في سبيل ذلك... لقد جاءت هذه الثورة المباركة لتكون إيذانا بعصر جديد يؤسس لدولة مدنية ستكون جزءًا لا يتجزأ من العائلة الدولية تغرد داخل السرب وتعيش اللحظة لا خارج دائرة الزمن...

وأخيرا فإن ما يقوم به الثوار اليوم تجاه هذا النظام أشبه بعملية جراحية لاستئصال ورم انتشر واستشرى في أجزاء الجسم، وهم بكل خبرة ودراية وحنكة سعوا إلى حصر ذلك الورم الخبيث في زاوية ضيقة يكون من السهولة بمكان استئصاله دون الإضرار بباقي الجسد الذي سيتعافى ويتماثل للشفاء إن شاء الله بمجرد اجتثاثه من جذوره ndash; وقد اشرفوا على ذلك ndash; متتبعين كل خلاياه السرطانية توخيا لعودتها مستقبلا....

[email protected]