كانت قيادة الثورات الوطنية على قوات المستعمرين الغربيين ابان احتلالها للبلدان الاسلامية بداية القرن التاسع عشر بشكل عام بيد الشيوخ وعلماء الدين الكبار بالسن، فهم من كانوا يفجرونها ويقودونها ويحثون الناس وكان اكثرهم من الشباب صغار السن على المقاومة والجهاد، أي ان الكبار كانوا يخططون ويقودون والصغار يتبعون وينفذون، وهذه كانت قاعدةquot;ثوريةquot;ثابتة ومتبعة، ففي العراق كان quot;رشيد عالي الكيلانيquot; قد تجاوز الخمسين من عمره عندما قاد ثورته و في ليبيا عندما قبض علىquot;عمر المختارquot; ومن ثم اعدم على يد الايطاليين كان عمره قد استقر على ثلاثة وسبعين عاما وكذلك اعدمquot;الشيخ سعيد البيرانquot; الذي فجر ثورة وطنية وقومية عظيمة ضد الزعيم التركي quot;مصطفى كمال اتاتوركquot; في مستهل القرن العشرين بسبب الغائه الخلافة العثمانية في( 60 ) من عمره، واخيرا عندما وقف quot;الشريف حسين بن عليquot; الزعيم العربي ضد اطماع العثمانيين كان قد تخطى الثانية والستين من عمره، وكان هؤلاء القادة يتمتعون بمكانة رفيعة في المجتمع و يحاطون بهالة من القداسة تصل في بعض الاحيان الى حد المبالغة في نسج الاساطير والبطولات الخيالية حولهم، وبموتهم او استشهادهم تنطفيء جذوة الثورة بانتظار ظهور بطل اخر يمتلك نفس المواصفاتquot;الخياليةquot; ليقود الثورة من جديد...
لكن مع اول هزة للزلزال لذي احدثه (البو عزيزي ) البطل التونسي الشاب بوجه الطغاة في الوطن العربي، تخلخلت الموازين وتغيرت المفاهيم وسقطت الصورة التقليدية التي كانت راسخة في اذهان الناس لقرون، فانتفض الشباب في اكبر عملية تغيير سياسية في العالم بفترة قياسية قاربت سرعة الضوء، وابطالها الفعليون كانوا شبابا غرا لم يتجاوزوا العشرين او الخامسة والعشرين من عمرهم..واروع ما في هذه العملية انها لم تكن حكرا على شخص او جماعة او حزب، بل الكل شارك فيها و ساهم في انجاحها، كما في صناعة الافلام الحديثة البطولة فيها جماعية، الكل بطل في مجال عمله، توزع البطولة على كل المشاركين فيها ؛ الممثلين والمخرجين والمنتجين والمصورين و...حتى الكومبارس، بخلاف افلام الاسود والابيض القديمة التي تعتمد بشكل اساسي على بطل واحد، هو النجم quot;المدللquot; بينما يعمل باقي فريق العمل تحت اشرافه وفي خدمته..
لم يكن احد يتصور ان يأتي يوم يصبح الشباب فيه هم من يقومون بالثورة ويخططون ويقودون وكبارالسن يتبعون وفي اكثر الاحيان( لا نعمم) يتفرجون او يعترضون وبعضهم يتمردون، ويحاولون الوقوف بوجه ارادة الله التي اودعها في هؤلاء الشباب للاقتصاص من الحكام المفسدين عن جرائمهم وفظائعهم التي ارتكبوها لسنوات طويلة، وبخاصة بعض وعاظ السلاطين، اللاهثين وراء حطام الدنيا، يحاولون ما امكنهم وضع العصي في عجلة الثورة و ثني الشباب عن جهادهم ضد الطغاة المفسدين، مع ان الرسول (ص)قال مرة ان quot;اكبر الجهاد كلمة حق عند سلطان جائرquot;، الا اذا كانوا يعتبرون هؤلاء الحكام مصلحين غير مفسدين وعادلين غير جائرين، جاؤوا الى سدة الحكم عن طريق الانتخابات وصناديق الاقتراع ولم يجيئوا عبر الدبابات والانقلابات الدموية.. وهذا هو الجنون بعينه.
وما يحز في النفس ان من بين وعاظ السلاطين هؤلاء من لهم باع طويلة في الدعوة الاسلامية و دراية واسعة في احكام القرآن والسنة النبوية، مفوهين وخطباء بارعين، يعرفون كل شاردة وواردة في الاسلام، ولكن مع ذلك يبررون ما يفعله الحكام بشعبهم من قمع منظم، ينظرون اليهم على انهم ظل الله الوارف في الارض تجب طاعتهم طاعة عمياء، وهذا خطأ لان الاية الكريمة التي تقول ( اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولوا الامر منكم ) يعني من ملة المؤمنين لا من ملة الحشاشين والسكرانين والسفاحين.. هؤلاء على الرغم من معلوماتهم الواسعة وثقافاتهم العميقة، فانهم بحاجة الى من يأخذ بأيديهم ويرشدهم الى طريق النور و يفتح بصيرتهم على الحق...
لا يمكن في زمن الاعلام المفتوح والانترنت والمعلومات ان تنطلي حججهم الواهية وفتاواهم الباطلة على احد.... ومن بين اكثر هؤلاء الوعاظ مناصرة لحاكمه و مؤيدا لخططه و مبررا لافعاله و منبهرا بطلعته البهية هو (الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي)، فلا تمر مناسبة دون ان يضيف هذا الشيخ الذي قارب عمره على الانتهاء شيئا لمناقب سيده (السيد الرئيس..بشار الاسد)quot;بطل مجزرة درعاquot; ومحاسنه التي لا تعد ولا تحصى !!، وعلى ذكر عبارة (السيد الرئيس) فلا اتصور ان احدا في سوريا ولا في الوطن العربي يستطيع ان ينطق هذه العبارة بانعم والطف و ارق من هذا الرجل وخاصة انها تخرج من فمه quot;منغمةquot;على وقع موسيقي مميز..
بقي الشيخ على عهده وفيا مخلصا للابن كما كان وفيا ومخلصا للاب ( السيد الرئيس..حافظ الاسد) quot;بطل مجزرة حماهquot; ومن رأى صلاته على جثمانه (الطاهر !) يوم رحيله الابدي وهو يؤم المصلين كيف كان يبكي عليه بحرقة وألم ويذرف دموع التماسيح، كان يشفق عليه ويخاف من ان يقع من طوله ويلحق بصاحبه من شدة الحزن والكمد، لا احد كان يصدق ان من يراه خاشعا و منكسرا في حضرة السيد الرئيس الميت هو نفسه الداعية الكبير الذي الف عشرات الكتب الاسلامية في وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعوة الناس الى مقارعة الظلم والظالمين ولكن في غمرة الانبهار بمباهج الدنيا و زينتها نسي ان العالم عندما لا يعمل بعلمه كما ينبغي، وجزاؤه في الاخرة ان يحشر مع هؤلاء الحكام.
التعليقات