في العام 1967 كان المدير العام للإذاعة والتلفزيون عسكريا، هو (العميد) خالد رشيد الشيخلي، وقد فرضه علينا وزير الإعلام (العسكري والعميد أيضا) دريد الدملوجي، ظنا منه بأن الإذاعة والتلفزيون لا يضبطها خبيرٌ من أبنائها، بل عسكري يديرها بصرامة من أجل الضبط والربط، لضمان قيامها بدورها المطلوب والوحيد، حكوميا، وهو ترويج سياسة الحكومة، والتبشير بإنجازاتها، وإسكات خصومها. أما الخبرة والمعرفة والكفاءة الإعلامية والثقافية فأمر هامشي ليس له ضرورة.
ثم جاءت ساعة الحرج الكبرى للسيد العميد حين اندلعت حرب الأيام الستة في حزيران/يونيو 1967 وأدرك خطورة المأزق الذي ينتظره في ملاحقة تطورات الحرب ومتابعة أخبارها وإدارة إعلامها، خصوصا وأن العراق مساهم فيها بقوات على الجبهات السورية والمصرية والأردنية. وهربا من الحرج ومن المسؤولية تصرف بذكاء فوزع مهام مسؤولياته على بعض كبار الموظفين الذين يتوسم فيهم الكفاءة والأمانة.
كنت يومها رئيساً لمذيعي الإذاعة والتلفزيون، فكان نصيبي من الصلاحيات هو مراقبة وإجازة جميع ما يرد من برقيات وبيانات وأخبار، إضافة إلى عملي الأساسي في توزيع العمل على المذيعين، وقراءة المواد المهمة، وخاصة بيانات القصر الجمهوري والحكومة، والأوامر والتوجيهات والتصريحات التي تصدر عن القيادة. وجرت العادة، في ظروف الحرب، أن نربط الإذاعة بالتلفزيون ونوحّد البث فيما يخص الأخبار المهمة جداً والبيانات الرسمية. وقد تعود العراقيون على توقع بيان هام أو خبر هام لمجرد أن يروني على الشاشة أو يسمعوني بالإذاعة. ومرت الأيام الأربعة ولياليها بكل ما ذقناه فيها من قلق وحماس وسهر وقلة نوم. نواصل البث أربعاً وعشرين ساعة دون توقف. نتناوب النوم في غرفة المذيعين على الأرض المفروشة بسجادة قديمة مثقبة وغير نظيفة. سليم المعروف، عبد اللطيف السعدون، حسين حافظ، طارق حسين، بهجت عبد الواحد، غازي فيصل، عبد الكريم الجبوري وغيرهم.
وكان الرائد أحمد أبو الجبن مبعوثاً إلينا من الاستخبارات العسكرية، ومداوماً معنا مثل أي واحد منا، يفحص الأخبار فقط من الناحية الأمنية والعسكرية. كان يجلس إلى جانبي في أستوديو البث ذات يوم. أنا منشغل بقراءة البيانات العسكرية، وهو منشغلاً أيضاً، يقرأ ويجيز، ثم يناولني لكي أذيع. لكنه وعلى غير العادة أمسك بورقة بيضاء وراح يكتب، ثم ناولني الورقة وأشار علي بإذاعة ما كتبه عليها، فأذعت:
quot;أفادت القيادة العسكرية العراقية بما يلي: قامت طائراتنا الباسلة بقصف مدينة ناثانيا في فلسطين المحتلة، وأوقعت بالعدو خسائر مادية وبشرية فادحة، ثم عادت إلى قواعدها سالمةquot;.
وحين انتهيت من القراءة بدأنا نذيع موسيقى عسكرية بعد أن أقفلت الميكروفون. قلت له: إن هذا خبر جيد، من أين جئت به؟ قال: هذا من من عندي، دعما للمعنويات. وخرجنا من الأستوديو لنستريح قليلا. بعد أقل من ربع ساعة أذاعت (صوت العرب) من القاهرة تقول: إليكم ما يلي: أذاع راديو بغداد ما يلي: quot; أفادت القيادة العسكرية العراقية بما يلي: قامت طائراتنا..quot; إلى آخر الخبر الذي صاغه أبو الجبن دعما للمعنويات.
طبعاً لو كنا نطابق ما نذيعه نحن من أخبار أو ما نسمعه من الإذاعات الأخرى، على خارطة الواقع، لكنا حررنا فلسطين أكثر من مرة. لكننا وبعد خمسة أيام من الخوف والقلق والعذاب وسهر الليالي، أذعنا أن الرئيس عبد الناصر قبل بوقف إطلاق النار. ثم اكتشفنا أننا فقدنا سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس ومساحة من جنوب لبنان. أما نحن كعراقيين، فقد كانت لنا قطعات عسكرية وقوات جوية في مصر وسوريا والأردن ndash; على ما أذكر. وعليه يصبح قبول السوريين والأردنيين بوقف إطلاق النار أمراً ملزماً للعراق.
هاج الدم في عروقي بعد أن سمعت الخبر. فبعد كل الدمار والضياع والدماء نقبل بالهزيمة، وبصورة علنية وبشكل رسمي. فغضبت وكتبت ما يشبه التعليق السياسي الحماسي أرفض فيه ndash; باسم الجماهير العربية الصامدة في كل شبر من الوطن العربيndash; قرار وقف إطلاق النار، وأهاجم المتهاونين، وأطالب بمواصلة القتال إلى ما لا نهاية، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى. كان شيئاً من كلام أيام زمان الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. دخلت أستوديو التلفزيون واتخذت مكاني في مواجهة الكاميرات وقلت للفنيين: يا الله يا شباب على الهواء. وانطلق صوتي عبر الإذاعة والتلفزيون معا.
لم أكن أعلم أن وكالات الأنباء كانت تترقب ما أذيع، وتتصيد مني ما عودتها عليه من بيانات مهمة وأخبار. فراحت برقيات الوكالات تتلاحق: (العراق يرفض وقف إطلاق النار). (متحدث رسمي عراقي يعلن عدم القبول بما وافق عليه عبد الناصر).
كنت في مكتبي في قسم المذيعين حين طلبني العميد، وبلهجة الآمر العسكري قال: تفضل إلى مكتبي. دخلت. قال انتظر، عندما يرن هذا الهاتف ارفع أنت سماعته وكلم المتحدث.
لم يطل انتظاري. دق جرس الهاتف، رفعت السماعة: نعم تفضلوا الإذاعة والتلفزيون. وجاءني صوته. إنه هو السيد الرئيس عبد الرحمن عارف. قال: من؟ قلت: تفضل يا سيادة الرئيس. قال: من؟ قلت: أنا إبراهيم الزبيدي. قال: إبراهيم، خذ سيارة وتعال إلى القصر الجمهوري فورا. قلت: أمرك سيادة الرئيس. قال: اسألني لماذا؟ قلت: لماذا يا سيادة الرئيس؟ قال: تعال صير رئيس جمهورية بدالي.
سكتُ لحظة، ثم قلتُ: سيادة الرئيس، أنا واثق من أن كلامي خارج من قلبك. فسكت هو أيضا، وسكت أنا، وساد صمت، ثم قال: وضعتنا في موقف حرج وكبير مع الرئيس عبد الناصر. ثم سكت، وسكت أنا أيضا، وساد صمت جديد، ثم سمعته بصوت فيه ود وحنان: زين يابا زين. وأقفل سماعة التلفون. سألني المدير العام عما حصل؟ قلت: قال: زين يابا زين. عاد وسأل: فقط؟ قلت: فقط لا غير.
التعليقات