أثار مؤتمر quot;بعضquot; المعارضة السورية(المؤتمر السوري للتغيير)، الذي بدأت أعماله اليوم في مدينة أنطاليا التركية، ردود أفعال سورية داخلية وخارجية كثيرة. فالمكان التركي، الذي أريد له، سورياً(على مستوى مموّلي المؤتمر والمحضّرين له) أن يكون quot;حاضناًquot; للثورة السورية(كما هو مفترض) وآمالها في التغيير المرتقب، ليس quot;مكاناً حياداًquot;، بأيّ حالٍ من الأحوال. هذا ما يقوله التاريخ وتخبرنا الجغرافيا، سورياً وتركياً، في الأقل، فضلاً عما بينهما من سياسة. بعد فشل أردوغان في إقناع الرئيس السوري بشار الأسد للقيام بquot;إصلاحات جذريةquot;، وعودة رئيس استخبارات بلاده هاكان فيدان أواخر أبريل الماضي، من دمشق فارغ اليدين، بدّلت تركيا موقفها ولهجتها تجاه النظام السوري، لصالح الشارع المطالب بالتغيير. quot;إشراك الإخوان المسلمينquot;(إلى جانب شخصيات المجتمع المدني المعارضة التي رفعت شعار quot;ربيع دمشقquot;)، كشريك أساسي في السلطة، كان أحد أهم النقاط الرئيسية الخمسة التي تضمنتها المبادرة التركية القطرية المقدّمة إلى النظام السوري. لكن قفز النظام السوري على المبادرة بغالبية نقاطها، ورفضه القاطع لإية مشاركة إخوانية معه في السلطة، أثار حفيظة المسؤولين الأتراك، ما أدى إلى انقلابهم على quot;سوريا الصديقةquot; ورئيسها بشار الأسد، وانتقالهم إلى صف quot;بعضquot; المعارضة السورية، الممثلة بquot;جماعة الإخوان المسلمينquot;، بالدرجة الأولى. ولكي يثبت المسؤولون الأتراك للنظام السوري، أنّ وصد الأبواب السورية أمام المبادرة التركية، لا يعني عدم قفزهم إلى سوريا عبر نوافذها، التي تهبّ عليها الآن رياح التغيير من كلّ صوب وحدب، قاموا باحتضان الإخوان المسلمين ومراقبهم العام رياض الشقفة، واستضافوا مؤتمراً تلو الآخر، تحت إسم المعارضة السورية، بدءاً من مؤتمر استانبول إلى مؤتمر أنطاليا. لا شك أن تركيا ليست جارةً سهلة لسوريا. فبينهما quot;لواء اسكندورنquot; الملحق بتركيا عام 1938، والذي يسمى في الأدبيات السورية quot;المقاومةquot; بquot;اللواء السليبquot;، حيث تمّ التنازل عنه في زمن حافظ الأسد، وبينهما الخلافات على المياه، التي تمّ التغاضي عنها في زمن الأسد بشار، وذلك عبر الإتفاق التركي السوري، على بناء ما يسمى بquot;سد الصداقةquot; على العاصي، وبينهما أيضاً حدود طويلة لا تزال قابلة للإشتعال، تصل إلى حوالي 900كم، بالإضافة إلى ما بينهما من ملايين كردية كثيرة، هم أصحاب قضية، استخدموا سورياً عبر ورقة حزب العمال الكردستاني ضد تركيا، لحوالي عقدين من الزمان. من هنا وبسبب quot;العمق الإستراتيجيquot; الذي يربط تركيا بسوريا، نرى أن الموقف التركي الراهن من الثورة السورية، هو موقف مغاير تماماً عمّا كانت تتخذه أنقرة من مواقف تجاه الثورات العربية الأخرى. سوريا ليست جارة تركية فحسب، وإنما هي بالنسبة لها كعمق إستراتيجي، امتداد ايضاً: امتداد كثير في السياسة والإقتصاد والإجتماع والثقافة. تركيا التي خسرت الكثير من quot;عمقها الإستراتيجيquot; مع العراق، من جراء سياسة quot;الحياد السلبيquot; التي اتخذتها من قضية الإحتلال ودول الحلفاء(أميركا+بريطانيا) عام 2003، تركيا اليوم لا تريد تكرار أخطاءها، وارتكاب الحماقة السياسية ذاتها، مع سوريا. علينا ألاّ ننسى بالطبع، أن لتركيا الآن مصالح كثيرة تربطها مع سوريا الراهنة في ظل قيادة الأسد. كان من الأربح والأسهل لتركيا بالطبع، أن يمشي خلفها النظام السوري، ويقوم بتطبيق quot;الوصايا الأردوغانيةquot;، للعبور إلى quot;سوريا حل وسطquot;، ترضي الجميع من النظام إلى المعارضة، ولكن الرياح السورية جرت بما لا تشتهي السفن التركية. فلا النظام استمع لنصائح جاره التركي وقبِل بمبادرته، ولا الثورة السورية توقفت عن المطالبة بحقها الشرعي في إسقاط النظام. إزاء سوريا قادمة على التغيير كهذه، حيث نرى ثورتها، يوماً إثر يوم، تتدحرج ككرة الثلج، لم يكن أمام تركيا إلا أن تنحاز إلى سوريا ممكنة، تحقق أكبر قدرٍ ممكن من مصالحها. كان عليها أن تتخذ موقفاً صريحاً من الوضع السوري الراهن القابل للإنفجار والإنشطار في أية لحظة. في الحالة السورية، كان من الصعب على تركيا العدالة والتنمية، أن تقف quot;مسافة واحدةquot; من جميع الأطراف، كما عوّدتنا على ذلك، في سياستها الخارجية لدى تعاطيها مع الأزمات في السنوات الأخيرة، وذلك بحكم مصالحها وعمقها الإستراتيجي الذي يربطها بسوريا، هذا بالإضافة إلى أجندات أخرى ذات علاقة بأيديولوجية حزب العدالة والتنمية، ذات التوجه الإسلامي المعتدل، في المنطقة العربية والإسلامية. تركيا تعرف جيداً أكثر من غيرها أنّ هذا النظام قد انتهى صلاحيته سورياً، ليس لأن شعبه لم يعد يريده فحسب، وإنما لأن المجتمع الدولي أيضاً بات من الصعب عليه أن يقبله. فهو بات دولياً(أوروبياً وأميركياً في الأقل) قاب قوسين أو أدنى من السقوط في اللاشرعية. هنا، من المهم جداً لتركيا أن تضمن لنفسها quot;سوريا المستقبلquot;، القادمة على التغيير، بديلاً عن quot;سوريا الأسدquot; الراهنة المارقة، طالما أنّ النظام السوري، الآيل إلى سقوطٍ بات ضرورةً دولية، كما تشير كلّ التوقعات، ولم يحتذِ مسؤولوه حذو النصيحة التركية، التي طالبته بإجراء تغييراتٍ في البلاد. من هنا جاء اللعب التركي، في الملعب السوري، بورقة quot;بعضquot; المعارضة لا سيما ورقة الأخوان المسلمين المقرّبين من حزب العدالة والتنمية، الذين كان لهم الدور الأكبر، في تنظيم وترتيب أعمال مؤتمر أنطاليا، وما سبقته من مؤتمرات ولقاءات بين أقطاب المعارضة السورية. الخوف من quot;تنصيب الإخوان المسلمين على رأس المعارضة السوريةquot;، على حدّ توصيف كلٍّ من الأكاديمي برهان غليون والناشط الحقوقي هيثم المنّاع، كان أحد أهم التحفظات التي سجلتها المعارضة السورية أحزاباً وشخصيات، على هذا المؤتمر. ذات اللعب على وتر الإخوان المسلمين، أو قريباً منه لعبته تركيا وإن بدرجة أقل، في الملعب المصري أيضاً، خصوصاً بعد سقوط نظام حسني مبارك. تركيا التي انفتحت في السنوات الثماني الأخيرة تحت قيادة حكومة العدالة والتنمية على محيطها العربي والإسلامي، لا تريد أن تطير سوريا من يديها. فهي تريد quot;سوريا في اليدquot; ما أمكن، أفضل من عشرة على الشجرة. مؤتمر أنطاليا، الذي باشر بأعماله اليوم، تحت راية الزمان السوري الثوري في مكان تركي، هو مبادرة تركية في هذا الإتجاه، قبل أن تكون مبادرةً سورية. تركيا، تريد أن ترسم صورة quot;سوريا المستقبلquot; على أراضيها، انطلاقاً من مصالحها، وهذا من حقها كدولة كبيرة في المنطقة، تربطها مع سوريا مصالح كثيرة. من حق تركيا أن تفكّر بquot;سوريا بديلةquot; تحقق أكبر قدرٍ من مصالحها. ولكن ليس من حق تركيا أن تركب الزمان السوري، كما تشاء في مكانها. جميلٌ بالطبع، أن تجتمع المعارضة السورية، اليوم، في أنطاليا، كبادرة أولى، لدعم الثورة السورية وزمانها، انطلاقاً من المكان التركي، ولكن اللاجميل، هو أن يبقى هذا البعض من المعارضة، حبيس العباءة التركية، لكأنها المنقذ الأول والأخير. المكان التركي، على أهميته، هو الآن، ليس المكان الوحيد لإحتضان المعارضة السورية. هناك الآن أمام المعارضة السورية أكثر من مكانٍ مفتوح لإستقبال مؤتمراتها واحتضان نشاطاتها.
الواضح من البيانات والبيانات المضادة، المنشورة بخصوص quot;شرعية ولا شرعيةquot; تمثيل هذا المؤتمر لسوريا الثورة، السائرة على خطى التغيير، هو أنّ أعمال التحضير له قد طُبخت على عجالة في مطبخ تركي سريع. وهو الأمر الذي أثار هذا الكم الكبير من ردود الأفعال، التي صدرت من عددٍ غير قليل من أقطاب المعارضة السورية، أحزاباً وشخصيات، في الداخل السوري وخارجه. هذا فضلاً عن أنّ المكان التركي الجار، الذي اختير لكي يكون منطلقاً لأول quot;مؤتمر سوري للتغييرquot;، هو مكان quot;غير بريءquot;.
قبل خروج تركيا من دور quot;الوسيطquot; بين سوريا النظام وسوريا الشعب، لم نكن نسمع من المسؤولين الأتراك، ولا حتى من الشارع التركي نفسه، أيّ كلام، غير quot;الكلام الطيّبquot;، عن quot;العمق الإستراتيجي الطيبquot; بين تركيا وسوريا quot;الجارة الطيّبةquot;.
على الرغم من انطلاق المبادرة تحت غطاء quot;تركي قطريquot;، إلا أنها كانت مرّخصة أميركياً، حيث كان لمدير الإستخبارات الأميركية ليون بانيتا، الذي مكث أثناء التحضير للمبادرة في تركيا 5 أيام، وأجرى مشاورات مع كبار المسؤولين الأتراك، دوراً كبيراً في تبلورها، ومن ثمّ إطلاقها بالشكل الذي تمّ.
فسوريا بالنسبة لتركيا، ليست بمصر ولا بتونس ولا بليبيا(حيث كانت تركيا آخر من اعترفت بالمجلس الوطني الإنتقالي الليبي)، ولا باليمن.
هي لن تترك الملعب السوري فارغاً، كي يلعب فيه الغرب، كما يشاء من دون مشاركتها في صنع صورة سوريا المستقبل. فquot;سوريا الأسدquot; هي quot;مشكلتهاquot; أولاً وآخراً، أو هكذا ترى، قبل أن تكون مشكلةً للمجتمع الدولي. ما يهدد أمن واستقرار سوريا المستقبل، يهدد أمنها واستقرارها، دون أدنى شك، لأنها الأقرب إليها، والأكثر تداخلاً معها، إذ تربطهما حدود مشتركة طويلة وحساسة، لا تزال القضية الكردية على جانبيه، بدون حلٍّ.
بحسب تصريحات سورية وتركية رسمية، بلغ حجم التبادل التجاري بينهما هذا العام، 1.4 مليار دولار، ووقع الطرفان بموجب اتفاقية ما يسمى بquot;مجلس التعاون الإستراتيجيquot; حوالي 50 اتفاقية اقتصادية وتجارية وأمنية. هذا فضلاً عن أنّ سوريا تشكل البوابة التركية الأوسع على العالم العربي.
أخر التصريحات الأميركية الرسمية تقول أن quot;شرعية الأسد بدأت تتلاشىquot; وتصف quot;وعود بشار الأسد بمجرد كلماتquot;.
هي باحتضانها لquot;بعضquot; من المعارضة السورية الآن، يعني أنها انحازت لقادم سوريا أو لبعضه على أقل تقدير، والذي سيكون قادماً من دون الأسد ونظامه على أية حال.
من حقها أن تفكّر بأمنها واستقرارها، الذي هو من أمن واستقرار سوريا.
من حقها أن تستضيف quot;سوريا المعارضةquot; لأجل العبور إلى سوريا جديدة، تحافظ على ما بينهما من quot;جيرة طيبةquot; واتفاقيات موقعة بين الطرفين.
من حقها أن تلعب في الملعب السوري، كدولة تشترك مع سورية في حدود طويلة وحساسة.
من حقها أن تمنع انزلاق سوريا نحو quot;حربٍquot; لا تحمد عقباها، ستؤثر تأثيراً بالغاً على المصالح التركية، فضلاً عن تأثيرها على الأمن والإستقرار التركيّين.
ليس من حقها أن تفكّر بسوريا، وتفصلّها لكأنها quot;محافظة تركيةquot;.
ليس من حقها، أن تنصب زيداً أو عبيداً، شيوخاً وأولياء على المعارضة السورية، فالسوريون أدرى بشعاب دمشقهم.
ليس من حق حزبها الحاكم(العدالة والتنمية) أن يعمم نموذج دولته(الإسلامية المعتدلة) على سوريا والسوريين، فالسوريون قادرون على اختيار نموذجهم الخاص بهم، والأنسب لموزاييكهم الإثني والديني واللغوي. فلا ننسى أن رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، الذي يتخذ من الداعية والمفكر الإسلامي التركي فتح الله كولَن quot;أباً روحياًquot; له، لا يزال مؤمناً بأبيات الشعر التركية هذه، التي أودت به عام 1998، إلى السجن بتهمة quot;الكراهية الدينيةquot;: مساجدنا ثكناتنا/ قبابنا خوّذنا/ مآذننا حرابنا/ والمصلون جنودنا/ وهذا الجيش المقدس حارسٌ لديننا.
ليس من حقها أن تتدخل في شئون أكراد سوريا، وأن تتعاطى مع قضيتهم الكردية السورية، في كونها قضية وطنية ديمقرطية بإمتياز، لكأنهم أكراد(ها) على أراضيها، حيث هناك ما يقارب 18 مليون كردي محروم من كلّ حقوقه السياسية.
جميلٌ أن تدخل المعارضة السورية(أو بعضها) مع تركيا كدولة جارة، في الأخذ والرد حول القادم من مستقبل سوريا، ولكن اللاجميل، هو أن تضع المعارضة السورية(أو بعضها) كلّ بيوضها، في السلة التركية.
هو، بعض مكان ممكن كي يتحرك عليه، المعارضون السوريون، وليس كلّ المكان.
لذا على المعارضة السورية ألاّ تتحصّن في المكان التركي وحده، لكأنه quot;المكان الخلاصquot;، حيث عقدت فيه حتى الآن 3 مؤتمرات ولقاءات.
من مصلحة سوريا التغيير وثورتها المشتعلة الآن، أن لا تفوّت المعارضة عليها فرصة استغلال quot;المكان الأمميquot;( الأميركي والبريطاني والفرنسي بخاصة) المفتوح لها الآن، كجهة قادمة للقادم من قيامها وقعودها.
فهل سنشهد المعارضة السورية، في القادم من مؤتمراتها، تتحد بكلّ أطيافها وتلاوينها، أحزاباً ومنظمات حقوقية ومدنية وشخصيات، وتجتمع تحت سقف الثورة السورية الواحدة، في واشنطن، أو لندن أو باريس أو برلين؟
- آخر تحديث :
التعليقات