شكَّلت الأحداث الأخيرة في الشرق الأدنى وشمال إفريقيا نقطة ضوء أنارت العتمة الشديدة التي لفَّت بعض ذكرياتي وتأملاتي. فقد كدت أصدِّق أن حماستي السابقة للرؤية الهاشمية بقيام كيان عربي يكمِّل التراث العثماني من حيث كونه كياناً متعدد الأعراق والثقافات، إنما كانت سراباً أو حماسة عبثية. وكنت في عام ١٩٦٧ قد كتبت raquo; إن الجامعة العربية لم تفعل شيئاً جدياً على الإطلاق من حيث هدفها النهائي في الوحدة العربية .laquo; ذلك أن الأنظمة العسكرية والاستبدادية ألغت الدساتير الديموقراطية والبرلمانية الهشَّة التي خلَّفتها القوى الأوروبية الحاكمة سابقاً، فبات الهمُّ الوحيد للحاكمين الجدد هو البقاء في السلطة.
ولتحقيق هذه الغاية نشأ تواطؤ بينهم وبين الدول المصدِّرة للأسلحة في العالم يقوم على أساس تأمين raquo; الاستقرارlaquo; الذي قرَّب الحكام الديكتاتوريين والمستبدين من الدول الصغيرة والكبيرة في أوروبا وأميركا على حساب شعوبهم، وبتمويل من عائدات النفط والغاز التي كان بمقدورهم إنفاقها لتنمية بلدانهم وتعليم شبّانهم، لكنها بدلاً من ذلك عادت الى خزائن الدول الصناعية والى الجيوب الواسعة للحكَّام. أما الأسلحة التي اشتروها لمقاتلة أعدائهم الوهميين فقد استخدموها لقمع شعوبهم.
لقد بهتت في ناظر الأجيال الجديدة والشابة، التي نشأت في ظل تلك الأنظمة، شعارات حكامهم. أصبحت كلمات مثل raquo; الديموقراطيةlaquo; و raquo; الإشتراكيةlaquo; عبارات ممجوجة تخفي واقعاً قذراً. بات الدين أداة للسلطة لا ملهماً لها. تحولت quot;الوحدة العربيةquot; الى quot;تباعد عربيquot;. أصبحت القضية الفلسطينية ذريعة لقوانين الطوارىء. الكلام المعادي لإسرائيل أصبح غطاءً للقعود والجمود.
وفيما تعاظمت الجهود اليائسة لبعض الأنظمة لمنع انتشار المعلومات في بلدانها وبين مواطنيها في الداخلوالخارج، فإن الأجيال الجديدة التي نشأت على الكومبيوتر والثقافة الإلكترونية اكتشفت زيف ادعاءات تلك الأنظمة فرفضت شعاراتها جميعاً.
إن المحور المشترك بين الانتفاضات العربية جميعها، ما نجح منها مثل انتفاضتي تونس ومصر وما لا يزال منها سارياً في مناطق أخرى، لا يدور حول إيديولوجية أو مبدأ بعينه، بل حول كلمة واحدة هي raquo; الحرية .laquo; فكيف لا أكون مبتهجاً وأنا أشهد ذلك، وأرى الآفاق الفسيحة المبشرة بالأمل والسعادة للشعوب العربية؟
فهل من المعقول أن يقبل شعب عربي، أو أي شعب آخر، بقيود نوع جديد من الديكتاتورية بعدما كسر قيود ديكتاتورية سابقة؟
ليس من قبيل الصدفة أن لبنان هو البلد الوحيد الذي لم يشهد مطالبات بتغيير النظام: دستوره علماني، نظام الحكم فيه برلماني ديموقراطي، مجتمعه يتمتع بحريات شاملة في أبعادها الفكرية والمادية. فالكنائس المسيحية، والجوامع الإسلامية، والمعابد اليهودية التي أعيد ترميمها حديثاً في وسط بيروت تؤكد إرادة الشعب اللبناني في الحفاظ على صورة لبنان كمجتمع عربي حر متعدد الأديان والثقافات.
ومع أن تلك الصورة تشوهت اليوم بفعل ممارسات بعض الزعماء الذين لا يمثلون البلد بقدر ما يمثلون طوائفهم، فإن هدف الحراك الجاري الآن بين الشباب اللبناني من مختلف الأعمار، هو إلغاء الطائفية السياسية، واستعادة التفسير الأصيل للدستور، وتغيير الزعماء وليس النظام. هذه هي ثورة laquo; ربيع لبنان raquo;.
إن نجاح أو فشل هذه الثورة اللبنانية سيكون له أثر واسع في أنحاء الشرق الأوسط، ولا سيما في جارته الجنوبية إسرائيل التي تشهد انقساماً عميقاً لا رادم له بين دعاة raquo; الدولة المشتركةlaquo; مع الشعب الفلسطيني، وبين القائلين بالدولة اليهودية التي لا مكان فيها للعرب.
لذا أسأل نفسي الآن: هل من الممكن استعادة raquo; الرؤية الهاشميةlaquo; وصياغتها من جديد بشكل raquo; هاشمية جديدةlaquo; ؟
إن الحدود المرسومة في الشرق الأوسط، وهي حدود فُرضت فرضاً على أقاليم الجزيرة العربية بعد الحرب العالمية الأولى، لم تعد تلبي حاجات وتطلعات السكان. ذلك أن اختلالاً وقع في مجالات الثروة والقوة بفعل التزايد السكاني السريع في بعض تلك الأقاليم، واستغلال موارد هائلة من النفط والغاز في أقاليم أخرى. فلم يعد معقولاً أو مقبولاً إنفاق تلك الموارد الهائلة النابعة من باطن الأرض على مشاريع خيالية في البحر بدلاً من إنفاقها على تطوير وتنمية المناطق الصحراوية وشبه القاحلة المحيطة بها. ولا هو مقبول أو معقول إنفاق تلك الموارد على شراء الأسلحة والطائرات للدفاع ضد أعداء وهميين بدلاً من إنفاقها على المدارس والجامعات والمستشفيات.
أما الشيء الملحّ فهو ما يواجه الشعب الفلسطيني من معضلات غايتها إجلاؤه التام عن أرضه، مما يتهدد المنطقة كلها بمشكلات إضافية. ثم إن التركيز على سيادة كل دولة عربية بمفردها ، حجب الحاجة الملحة الى سياسة
مشتركة. والنتيجة أن فشل تلك الدول في احتواء إسرائيل وضعها جميعاً أمام خطر داهم.
إن الحاجة الملحة الآن هي قيام وحدات سياسية أكبر، من غير المساس بالحدود الراهنة، بغية تعزيز التضامن الداخلي للدول العربية وزيادة نفوذها الخارجي. إذ يمكن أن تقوم وحدة من هذا النوع في الجزيرة العربية بين بلدان laquo;الخصيب الهلال raquo;، وأخرى تضم قلب الجزيرة والسواحل المحيطة بها. وفي شمال إفريقيا تلوح إمكانية وحدة البلدان التي كانت سابقاً تحت السيطرة الفرنسية والإيطالية، الى جانب وحدة quot;وادي النيلquot; التي تضم مصر والسودان لتشكل الرابط الجغرافي والإنساني بين آسيا وإفريقيا.
وهذه الوحدات الأربع مجتمعة تشكل raquo; الكيان العربيlaquo; الجديد الذي يتوجب أن يشمل ميثاقه الأساسي: ضمان المساواة في الحقوق القانونية والسياسية والفردية بين مواطنيه، الى أي أصول عرقية أو إثنية أو دينية أو ثقافية انتموا. والمساواة التامة بين الرجال والنساء. والالتزام بالقوانين الدولية لحقوق الإنسان، واحترام قواعد السلوك الدولي. وإقامة حكومات دستورية بشتى أشكالها بما يؤمِّن فصل السلطات، والتمثيل المتساوي، والشفافية،
والانتقال السلمي للسلطة. وتكون السلطة العليا في هذا الكيان لمجلس يضم أعداد متساوية من الممثلين المنتخبين لكل وحدة من الوحدات الأربع المذكورة.
إن إقامة هذه الوحدات الإقليمية من شأنه أن يزيل ما يتهدد المنطقة الآن من خطر المزيد من التجزئة والتفتيت الى دويلات عرقية أو دينية، ويعيد الروابط الجغرافية والتاريخية والاقتصادية بين الشعوب العربية. ويشكل هذا الكيان العربي العابر للدول القطرية أفضل حل لمشكلة إسرائيل، بل هو الحل الوحيد القابل للحياة.
فعندما اختارت الحركة الصهيونية إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين العربية، ألزمت نفسها تاريخياً وأخلاقياً بالتعايش مع السكان المتواجدين هناك. وحتى تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية اعترف بذلك في روايته
الرؤيوية: quot;أرض جديدة قديمةquot; . ذلك أن إقامة دولة إسرائيل وتحويل سكانها من raquo; يهود فلسطينيينlaquo; الى إسرائيليين ألغى السبب الموجب للصهيونية، ووضع الدولة الجديدة أمام خيار تاريخي: إما القبول بالحق الشرعي للعرب الفلسطينيين في إقامة دولتهم، والسعي الى إحياء ثقافة عربية ـ يهودية، وطريقة عيش مشترك، كما كان الحال في الماضي، وكما هو قائم الآن بين الجماعات اليهودية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفي المهاجر، أو إنكار هذا الحق والتراث ومحاولة إبعاد العرب الفلسطينيين عن أرضهم، سياسياً في البداية، ثم جسدياً بالتالي.
هناك مكان لإسرائيل في الكيان العربي العابر للدول القطرية إذا اختار المواطنون الإسرائيليون التقيد بشروط ميثاق هذا الكيان. وبهذا الخيار لا يخسرون شيئاً، بل هم سيكونون رابحين. أما إذا راحوا الى الخيار الآخر تحت تأثير الصهيونية الأميركية التي عفا عليها الزمن، أو تحت تأثير الوافدين الجدد من روسيا، فإن إسرائيل سوف تواجه وجوداً قاتماً يشبه حياة الغيتو، وسيبقى أمنها مهدداً باستمرار.
يتساءل المرء في إطار هذا التصور raquo; لإعادة تشكيلlaquo; شعوب الجزيرة العربية وشمال إفريقيا في كيان جديد عابر للدول القطرية، ما إذا كان أمراً بعيد المنال لتخيُّل عملية تغيير مماثلة في الجوار القريب في كل من إيران وتركيا، حيث في البلدين كليهما سكان متعددو الأعراق والثقافات، ويواجهان كلاهما أخطار التقسيم والتجزئة. أم هو أيضاً بعيد المنال تصوّر نوع من اتحاد المصالح المشتركة بين الكيانات الثلاثة العربي والتركي والإيراني.
في الماضي غير البعيد كان من علائم السادة النجب المثقفين الراقين في الشرق معرفتهم الواسعة والمحيطة باللغات العربية والفارسية والتركية وثقافاتها. كان عالمهم يمتد من المحيط الأطلسي الى حدود الهند والصين وبلاد آسيا الوسطى.
إن استرداد هذا العالم الضائع من الثقافة والتجارة والحيوية ليس مجرد خيال. وبالتالي فإنه غير مستحيل قطع الطريق بين الحلم والواقع.
***سيسيل حوراني مؤرخ ومحلل سياسي لبناني ، شغل منصب المساعد الخاص للرئيس التونسي الحبيب بورقيبه، وأسس quot;المركز الثقافيquot; في حمامات التي اشتهرت بمهرجاناتها الدولية. وquot;ايلافquot; تنشر هذا المقال باتفاق خاص مع quot; الديبلوماسيquot; ، وهو تقرير شهري يصدره من لندن الصحافي اللبناني ريمون عطااللّه. عدد آيار/ مايو - المجلد ١٥
التعليقات