إن التدخل الأجنبي، في كل تواريخ الأمم والشعوب، وبأي شكل من أشكاله، كان وما زال وسيبقى مرفوضا بكل الشرائع والقيم السماوية والوضعية، كافة، ومقاومته بكل الوسائل حق مشروع لا ريب فيه. فأعزُ ثلاثة أشياء لدى الشعوب، متقدمة ً كانت أو بدائية، وأكثرُها قداسة واستحقاقا للتضحية من أجلها بالروح والمال والبنين، هي quot;الكرامة الوطنيةquot; وquot;السيادةquot; وquot;الاستقلالquot;.

ومن أول مراحل التاريخ البشري وإلى اليوم ظلت الناس تمجد أبطالها الخالدين الذين قادوا معارك تحريرها ودافعوا عن تراب الوطن المقدس واستقلاله وكرامته، ضد أي معتد ٍ خارجي حاول المساس به، من قريب أو بعيد.

إلا في أيامنا الجديدة هذه، في وطننا العربي الكبير هذا، في هذه المرحلة العجيبة هذه من تاريخنا الطويل. فقد تغير المزاج العربي الوطني والقومي تغيرا دراماتيكيا عجيبا غيرَ طبيعي وغير اعتيادي، من النقيض إلى النقيض.

فبعد أن كانت الملايين تهتف ضد الأجنبي، وتبالغ في كراهته، وتتظاهر ضد ممثليه ومصالحه، وتحرق أعلامه، وتدوس على صور قادته وزعمائه، صارت تتوسل به لكي يتدخل في شؤونها الداخلية، علنا وبحماس منقطع النظير.

أليست مسألة بحاجة إلى تأمل ودراسة وتفسير؟ ألا تكون الدنيا قد انقلبت على أعقابها، ودار الفـَلـَك إلى الوراء دورة لم تخطر لأحد ٍ على بال، حين تهب جماهيرنا العربية، بالآلاف والملايين، تطالب القوى الأجنبية التي كانت إلى الأمس القريب (أمبريالية) و(صهيونية) بالتدخل، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، لتحريرها من زعيمها (الوطني) الشقيق، حتى لو أدى هذا التدخل إلى هدم مؤسسات الوطن ومعسكرات جيشه ومدارس أطفاله وجسوره ومطاراته ومستشفياته. وحتى لو قتلت صواريخ هذا الأجنبي عشرات أو حتى مئات من أنصار القائد وأتباعه ومناصريه؟!. بل وتَعتبر التأخرَ في هذا التدخل خيانة لقضية الحرية وحقوق الإنسان.

ومهما أطلق الرئيس وأعوانه من صفات العمالة والخيانة على هؤلاء المتظاهرين، وأسماهم بالجرذان والمهلوسين والمدسوسين والإرهابيين والمأجورين، فهم يظلون أصحابَ وطن، ورعايا القائد ومواطنيه.

فهم ليسوا فئة صغيرة، سياسية أو دينية أو ثقافية، شذت عن الإجماع الوطني العام. وليسوا سكان قرية واحدة، أو أهالي حارة في مدينة، أو عمالا في مؤسسة ماء أو كهرباء أو إعاشة يطالبون بزيادة رواتب. إنهم جماهيرُ حاشدة، صاخبة، صامدة، في طول البلاد وعرضها، لا يوهنها قتل ولا اعتقال ولا اغتصاب. فيها شيوخ وشباب. نساء ورجال. كبار وصغار. تقدمي ورجعي. علماني وديني. أميٌ وعالم. واعض ديني ومثقف أكاديمي. غني وفقير. عربي وكردي وبريري. مسلم ومسيحي. عاطل عن العمل وموظف صغير وكبير. فيها وزراء وسفراء وقادة عسكريون وأمنيون ومدراء عامون كانوا إلى الأمس القريب أعمدة هامة في نظام القائد، يشاركونه فساده، أو يديرون له سجونه ومعتقلاته، أو يُنظرون ويبشرون بنزاهته ووطنيته وعبقريته النادرة. كما فيها منقلبون على الرئيس من عظام رقبته نفسه، من عشيرته أو مدينته أو طائفته، أو حتى من أسرته الصغيرة ذاتها.

تبدأ المسألة بتظاهرة ٍ سلمية صغيرة تخرج من مسجد صغير أو من مدرسة في قرية نائية، أغضبها شرطي، أو أزعجها قارار، مُطالبة ً بالعدالة ومحاربة الفساد. فينتفض الزعيم. هل يعقل أن يكون على أرضه وتحت سمائه وفيمن ملكت يداه من عبيد وعبيدات ناكرٌ واحدٌ لجميله وكارهٌ لعهده الأمين؟ إنها، في قناعاته المؤكدة الثابتة، زمرة مارقة متآمرة مأجورة مدسوسة من الخارج. ولئلا تُفسد عليه السهل كله يأمر مخابراته وأمنه وحرسه الجمهوري ودبابات جيشه وحتى طائراته بالتحرك العاجل لتلقيم أفواه (الخونة) و(العملاء) بالرصاص الحي.

ثم ترد الجماهير. تهب في حارة أخرى، ثم في مدينة أخرى، ثم في قرى ومدن جديدة، ثم في الوطن كله، لنجدة الأشقاء المحاصرين. وتندلع الحرائق. وتصبح القضية أزمة ً وطنية وقومية وأممية شاملة. ثم تبدأ اللعبة التي لا تنتهي. فكلما زاد النظام رصاصَه زاد غضبُ الجماهير وإصرارُها على التحدي. ولا عودة إلى وراء. فلا النظام ضامن لسلامته إن أوقف عجلة القتل والدهس والاقتحام والمحاصرة، ولا المعارضة ضامنة لسلامتها إن هي توقفت عن ثورتها قبل أن يرحل الزعيم.

ومع الحرائق في كل مكان، وفي كل صباح ومساء، تشخَص أبصار ُ الجميع إلى أوباما وساركوزي وكاميرون ونتياهو. هل سيطلبون من الزعيم الرحيل، أم يَعمُوْن ويَطرَشون عن دبابات الحليف وهي تدوس أجساد المتظاهرين المدنيين العزل من كل سلاح؟.

ومع هذا المأزق المريع، ورويدا رويدا، يبدأ التساهل في المحرمات. فيتنازل الزعيم عن هيبته وكبريائه ويروح يناشد الأجنبي أن ينجده وأن يمده بالمساعدة على قمع الإرهابيين المندسين المتآمرين الخطرين على أمنهم، هُم، قبل أمنه، هو، وقبل أمن بلاده ومواطنيه.

وتتراجع (المعارضة) عن مبادئها السابقة الرافضة لأي تدخل أجنبي في شؤون الوطن، ولأي انتهاك لسيادته المقدسة، فتهرول إلى الغرب، إلى واشنطن وباريس ولندن ونيويروك، طالبة الرحمة والمعونة والتدخل لحماية المدنيين، ولوقف (إرهاب) النظام، ولإنقاذ الكرامة الوطنية المنتهكة والسيادة المنتقصة على يد الزعيم الشقيق ورجال أمنه ومخابراته الظالمة.

وهكذا تتبدل القيم والمقاييس. فالظلم (الوطني) وفسادُ الزعيم يُصبحان الكفرَ كله، ويصير (عدو الأمس) الخارجي وصواريخُه المدمرة الحارقة ملائكة َرحمة ٍ وعدالة وهداية ٍ وتحرير وأمان.

ثم تعرض لنا الفضائيات العربية والأجنبية، معا، صُورَ المقاتلين الثوار يرقصون مهللين فرحين بقتل عشرات من جنود النظام، وصُورَ ضباط النظام وجنودِه يتباشرون بقتل عشرات من المتمردين الخونة المارقين. عجبي.