ليس من المؤكد، أنّ النتائج المحزنة التي وصلت اليها العملية السياسية في العراق، سوف تهزّ كثيرا من القناعات الراسخة لدى رئيس الوزراء العراقي، وتحفزه على البحث العاجل عن الأسباب الحقيقية التي كانت وراء الأزمات المستفحلة على الصعيدين السياسي والإجتماعي بهدف العثور على مخرج ملائم للإنحباس السياسي الراهن وبالتالي الإلتفات الى المطالب العاجلة للأغلبية الإجتماعية المتضررة من الأوضاع الإستثنائية التي طال أمدها أكثر مما ينبغي منذ عام 2003. حيث لا يزال مصرّا على التعنت والمواقف المتشنجة ذاتها، وخصوصا حين يتعلق الأمر، بتحسين الخدمات وتوفير فرص العمل ومحاربة الفساد الإداري والمالي ووضع حدّ نهائي للعبث السياسي المزمن والنهب المنظم للمال العام، رغم أنّه أقدم وبيسر ملفت للنظر، على تنازلات كثيرة، وخاض في تسويات سياسية فوقية، وأجرى مقايضات لا حصر لها مع الخصوم السياسين في الداخل والخارج، عندما كان الأمر يتعلق بصراع الكراسي ومواقع السلطة والثروة والنفوذ.
ولا يمكن تفسير تردّده في الإستجابة لمطالب المتظاهرين منذ الخامس والعشرين من شهر شباط الماضي، والتسليم بمشروعية الأهداف التي يعبّرون عنها، ومن ثم العمل على إيجاد الحلول المناسبة لها، سوى شعوره العميق بالخطر الذي غذته عقود طويلة من الإنفصال التامّ بين ما يدور في عالمه المحدود والمغلق، وبين ما تكتوي به الأوساط الإجتماعية يوميا من جهة أخرى. ولهذا كان رهانه الوحيد حتى اليوم، هو إستمرار المواجهة بين السياسة والمجتمع، واللجوء الى كلّ الوسائل الخاطئة للتعامل مع حاجات الأغلبية الإجتماعية بإستثناء اللجوء الى الوسيلة الصحيحة والمناسبة في التعاطي معها والتي تقتضي التواصل الحقيقي مع الجمهور العريض وخلق شروط التفاهم وترسيخ مبدأ الرقابة والمسائلة الإجتماعية بإعتباره مبدأ طبيعيا وموضوعيا، وليست مطالب المحتجين صدقة دينية يمنّ بها عليهم حين يحلو أو لا يحلو له الأمر، والكفّ عن التعالي والنظر الى المتظاهرين بإعتبارهم جموع دهماء وقاصرة ينبغي تأديبها وإرجاعها الى أقفاصها، وترك أمور الشأن العام لأولي الأمر، ولمن هم أولى بإدارته، وأعرف بالمصالح الحقيقية للبلاد.
ومصدر الخطورة يكمن بإعتقاده، في الإعتراف بأنّ الدولة هي الإطار الحقيقي والشرعي للتعبير عن المصالح الإجتماعية وفي ترجمة هذا الإعتراف الى خطوات عملية جريئة لصالح المجتمع، لا في إستمرار التصرف بها وبمواردها كغنيمة صالحة للتقاسم، ومصادرتها لصالح الحواشي والمقربين والموالين لشخصه وحزبه والذين لم ولن يتوصلوا عن طريق الوسائل الملتوية وأساليب البلطجة والشقاوات وفبركة التظاهرات المضادة والمؤيدة لشخصه، واللجوء الى الصيغ القديمة والمستهلكة التي فقدت تماما فاعليتها، من أجل كسر المطالب الجماهيرية المشروعة بدلا من محاولة السيطرة العقلانية على النزاعات الناجمة بين المصالح المتباينة وتحديد الصلاحيات الخاصة بالسلطات الحكومية، ومنع تداخلها بالإسراع بسنّ القوانين اللازمة لتجنب الفوضى والإرتجالية والإعتماد على قوانين المرحلة الديكتاتورية السابقة في الكثير من الشؤون والمصالح العامة. ولا يمكن أن يتحقق ذلك كله إلاّ بالتمييز بين الحزب المهيمن على الدولة ومواردها ومؤسساتها وبين الدولة ذاتها كإطار قانوني حقوقي وإنساني يستظل بها جميع المواطنين بغض النظر عن إنتماءاتهم المختلفة، وبالتمييز بين المصالح الجزئية والعامّة، الأمر الذي لم يسمح فيما مضى من سنوات، بتحديد القاعدة التي ينبغي أن تحكم العلاقات بين القوى السياسية ذاتها من ناحية، وبينها وبين المجتمع من ناحية أخرى.
ومن الواضح تماما، أنّ السيد نوري المالكي لا يزال يعتقد بأنّ السياسة كما quot;التجارةquot; هي فهلوة وتحيّن للفرص وتكيّف مع متطلبات السوق وما يستدعيه من إستبدال سريع للبضاعة والزبائن ومن تزيين لواجهة الدكان، حسب قوانين العرض والطلب، وكلّ ما عليه فعله لتأكيد وجوده الأوحد في ميدان التنافس، هو الإحتكار التقليدي وكسر البضاعة المنافسة من أجل الكسب السريع. فالزهو ومشاعر العظمة والميل للتفردّ بالقرار والإستبداد بالرأي والإرتجالية والتسرّع، التي بدت تتسم به خطاباته وتوجهاته وسلوكه السياسي والطرق اللا مسؤولة التي بات يعتمدها في معالجة الأزمات العامة، ولعلّ آخرها هو توجيهاته المباشرة لمجالس الإسناد العشائرية من مواليه الذين أغدق عليهم من المال العام بما يضمن ولاءهم لحشد تظاهرات موالية له يوم أمس في ساحة التحرير في العاصمة العراقية وإنتهت بإعتداءات سافرة ومواجهات دامية مع المتظاهرين الحقيقيين، لا يمكن لها أن تكون من صفات رجل الدولة quot;المنتخبquot; عن قائمة أسمت نفسها دولة القانون، إلاّ إذا كانت الصفات الشخصية بدورها تتغير حسب الفصول والمواسم والأسواق.
التعليقات