منذ بداية الاحتجاجات السورية و حتى أيام قليلة ظلت فئة كبيرة من السوريين، منفتحة على أمل أن يخيّب السيد حسن نصر الله، رجاء الطائفيين، ممن راهنوا مبكرا على اتخاذ حزب الله اللبناني، موقفا سلبيا من تظاهرات الشباب السلمية في سورية،وعلى استمرار دعمه نظام الرئيس بشار الأسد. للأسف ما لبثت أن تبخرت آمال السوريين و أصيبوا بصدمة و خيبة أمل حقيقية، بعد أن خرج الأمين العام لحزب الله اللبناني عن صمته،و أعلن دون التباس موقفا صريحا مناهضا للاحتجاجات السورية التي قدمت حتى الآن رغم طابعها السلمي أكثر من 1062 شهيد و آلاف من الجرحى و مثلهم، بل أكثر، من المعتقلين، لقد ربح الطائفيون الرهان، و استمد الوعي الطائفي في سورية و المنطقة العربية عامل قوة إضافي، و بدا أثره قويا و متجددا فيهما.

لن تكتفي هذه المقالة بالتعبير عن خيبة الأمل من موقف حزب الله اللبناني الذي دعا السوريين منذ أيام إلى الدفاع عن نظامهم الممانع،وأعلن صراحة انحيازه إليه، و هي في واقع الأمر خيبة كبيرة،و لن تتوقف عند حدود دهشة العقلانيين الديمقراطيين المؤمنين بمبدأ المقاومة و المدافعين عنها، كما لن تتطرق إلى المدلولات السياسية لهذا الموقف، والتي سينهض إليها الكثيرون كتابة و تعليقا في الأيام القادمة. تريد هذه السطور أن تناقش الموضوع من زاوية تقود إلى أبعد من ذلك تحليلا و عمقا، إلى الدلالة التي تعكس بنية العقل الديني في تجليه الإسلامي الشيعي أثناء انخراطه و اشتغاله على الحقل السياسي والاجتماعي،و التي بمؤداها لا يخرج الوعي الديني من انغلاقه الأولي و العام إنما يضاف عليه انغلاقا خصوصيا. بنية هذا العقل لا تسمح له بالخروج على مسلمات أساسية تؤمن بها الطائفة الشيعية و تعتبرها مربطا أساسيا لها، من تلك المسلمات مبدأ الإمامة المعصومة عن الخطأ و الدنس، و واقع الظلم الذي تعرضت له الطائفة الشيعية في التاريخ الإسلامي إثناء الصراع على الخلافة الدينية و السياسية في صدر الإسلام، لهذه المسلمات دور محوري في إنتاج معرفة مطابقة لاعتبار الطائفة الشيعية نفسها، أمة أو طائفة مظلومة، بل الطائفة المظلومة مع لام التعريف،و طائفة لا تخطئ في وجهتها العامة، معها نبراسها و رقيبها، الإمام ذو العصمة، لذلك فأبناء الطائفة الشيعية المظلومين،و كمُسلّمة، حين يناضلون من اجل حريتهم ضد حاكم من خارج الطائفة، مستبد سني،إنما هم طلاب حرية، و مسار حركتهم في واقع الأمر يشكل ثورة من أجل الحرية لا التباس فيها، و هو حال حزب الله و موقفه المشروع من ثورة أهل البحرين من أجل الحرية، أما أبناء الطوائف الأخرى فحين يناهضون مستبدا بسمات خاصة يكون بمقتضاها قريبا من رموز في الطائفة الشيعية و خياراتها السياسية مثل الرئيس بشار الأسد و قبله والده الرئيس حافظ الأسد، أبناء تلك الطوائف يضعون أنفسهم في موضع شك أولا و ربما جزءا من مؤامرة، حتى يثبت العكس الذي لن يكفي لإثباته ابلغ الحجج، و هو موقف حزب الله من الثورة السورية السلمية ضد النظام السوري و هو بالمناسبة موقف يتناقض مع موقف الحزب من الحالة العراقية أيام الرئيس الراحل صدام حسين الذي لم يقل موقفه ممانعة أو مقاومة عن موقف النظام السوري إن لم يكن أصدق. يكمل الجزئية السابقة و يزيد من وضوح الدلالة انفة الذكر، أن للظلم في الوعي الديني قياسات مختلفة،فهو ظلم تام و مطلق و لا يُحتَمل حين يكون مصدره خارجيا، بالنظر إلى الحدود الدينية التي يرسمها ذلك الوعي، هذا هو حال حزب الله مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يقمع بوحشية روح الإنسان الفلسطيني و العربي و تطلعهما إلى حقوقهما و حريتهما، لكن الظلم يفقد صفته غير العادلة و حتى القهرية و القمعية حين يكون داخليا وفق التحديد الديني ذاته، أو على الأقل يفقد طابعه غير المحتمل، أو تتأخر أولويات مقاومته إلى مراتب متأخرة، يصبح ظلما ثانويا و بسيطا و لا يقتضي التخلص منه و مناهضته لا التظاهر السلمي و لا التعبير عن الغضب، حتى و لو كان هذا الظلم أكثر قسوة و توحشا مما يطبقه المثال الإسرائيلي أو لا يقل عنه في أحسن الأحوال، هذا هو حال حزب الله مع الثورة السورية السلمية.

لقد قدم السيد حسن نصر الله ما يشكل في وعيه ضرورة مقاومة الإنسان العربي لإسرائيل الظالمة، على ضرورة مقاومة الإنسان العربي للاستبداد الذي لا يقل ظلما و توحشا و عريا إن لم يكن يفوق ما لدى اسرئيل تجاه الإنسان الفلسطيني واللبناني و العربي في المنطقة، لقد فاضل بينهما بصورة خاضعة للاعتبار السابق، فأحدث تناقضا حادا في موقفه، بين ظلم اسرئيلي هو في ميزان حزب الله ظلما مطلقا ينبغي مقاومته ( و هو موقف صحيح تماما ) و بين ظلم النظام السوري لأهله ( الذين لا ينتمون للطائفة الشيعية في غالبيتهم )الذي تحوّل في ذات الميزان إلى ما يشبه العدل و الصواب و الحق لممانعته الظلم الأول، هذا يصنع في أوضح ما يمكن، ازدواجية في موقف حزب الله و يكشف عن عقله الديني في بنائه الطائفي و عن هشاشة واضحة في وعيه المقارب للواقع من هذه الناحية،في حين كان من المشروع و العملي و العلمي و الأخلاقي والواقعي النظر إلى كلا الظلمين، الإسرائيلي و الاستبدادي السوري بوصفهما متكاملان في إلحاق القهر و الهزيمة و القمع بالإنسان السوري و العربي و مكملان لبعضهما بعضا، إذ لا ينجح أحدهما إلا بدعم الآخر موضوعيا.

هذا بالطبع كله لا يعني أبدا وفقا لما تذهب إليه هذه السطور أن مقاومة حزب الله لإسرائيل لم تكن خيارا ناجعا، رغم موقف السيد حسن نصر الله الأخير من الثورة السورية، و أنها لن تظل كذلك، و أنها أيضا لا تزال تحظى بدعم السوريين جميعهم، لكن الجديد بعد هذا الموقف، هو الضعف الذي ستبدو عليه مصداقية الحزب أمام الرأي العام السوري، و الهشاشة التي يبدو عليه العقل الديني الطائفي، العقل غير العلمي، و القيم القروسطية أثناء اللجوء إليها معيارا و محددا و سقفا للمواقف و التفاعل و الصراعات في الحياة و المجتمع، بشكل عام.

حزب الله اللبناني الذي شكل لدى قطاعات من مختلف الطوائف في الشارع السوري ساحة للمصداقية هائلة،و خلق بين مختلف الطوائف السورية حالة إجماع على نجاعته و نزاهته بما يصلح لأن يشكل أرضية و تقاطعا و مشتركا، وبما يجسر بينها الهوة التي يخلفها الوعي الطائفي و القراءة المختلفة للمعنى الديني، هذا الحزب يخلق الآن و بعد خطاب أمينه العام الأخير في المجال السوري السياسي والاجتماعي،أرضية عكسية و أثرا مغايرا، للأسف الشديد، أثرا يفيد لجهة الازدياد في الاستقطاب الطائفي و ذهابه إلى درجة أكثر حدية مما سبق في سورية، هذا الأثر من الخطورة بمكان بحيث يفرض على السوريين، الشباب المتظاهرين،و على العقلانيين الديمقراطيين و النابذين للطائفية و عيا و سلوكا، المبادرة فورا لاحتواء مفاعيله و الدفع نحو التأكيد على احترام موقف حزب الله المقاوم لإسرائيل و الاستمرار في دعمه، مع المحافظة على الاختلاف العميق معه ليس في الشأن السوري و في الموقف من الحكومة السورية و حسب بل في المعايير التي على أساسها يجب إدانة الفعل و السلوك القمعي، بما يعني إدانة القمع الدائمة لذاته و صفته و طبيعته، و ليس بالنظر إلى هوية مطبقيه و متلقيه، القائمين عليه أو المتعرضين لوطأته.


رئيس حزب الحداثة و الديمقراطية