الحديث عن الدولة الدينية في العصر الحديث، يقود من فوره الى النموذجين الافغاني و الايراني، والذين يمثلان البعدين الاساسيين في الاسلام، وان قيامهما و في مرحلة إستثنائية بالغة الحرج شهدت العديد من التقلبات و التغييرات غير العادية على مختلف الاصعدة، منحهما قسطا أکبر من الاهتمام و دفع المنطقة و العالم للتوجس ريبة منهما و التعامل بحذر بالغ معهما.

ولئن کان النموذج الايراني(دولة ولاية الفقيه)، هو الاکثر تطورا و تقدما و يکاد أن يسعى للتلائم و الانسجام مع نماذج الدول الاخرى القائمة في البلدان العربية و الاسلامية و يساير العالم نوعا ما، لکنه وفي جوهره الاساسي يتفق و إياه في جنوحه للشمولية و القسرية المفرطة، ويتخذ من مبدأquot;التقيةquot;، المثير للجدل مبررا و مسوغا لتعاملهquot;التناوريquot; او بکلمة أدق النفاقي مع المنطقة و العالم، وعلى الرغم من الخلافاتquot;الطائفيةquot;العميقة الجذور بين النموذجين الافغاني و الايراني، لکنهما و في کثير من الاحيان و بسبب من الاوضاع الذاتية و الموضوعية القائمة، کانا يجدان نفسهما ملزمين بالتعاونquot;المحدودquot;و احيانا quot;المشروطquot; بينهما لتجاوز محنة او ثمة عوائق محددة، غير ان ذلك لم يمنع أي واحد منهما في التمني لزوال الآخر، وان الخدمات التي قدمها نظام ولاية الفقيه للأمريکان عند بدء ماسمي وقته بالحرب ضد الارهاب، کشفت و بشکل واضح النوايا الحقيقية و الواقعية لرجال الدين في طهران و أکدت تغلب بعدهم الطائفي على البعد الاسلامي، عندما تعاملوا مع النصوص الفقهية بالکيفية التي تسوغ لهم التصرف و التعامل معquot;الامريکانquot;في غزوهم لدولة طالبان الاسلامية، وعندما نقول اسلامية فلأننا لانحبذ ان نساير الموجة الرسمية التي تسعى دوما لعزل نموذجي ولاية الفقيه الايرانية و طالبان الملا عمر الافغانية من الاسلام و إعتبارهما نموذجين خارجين عنه، لکننا نميل لإعتبارهما نموذجين شاذين بمعنى الکلمة يستندان على أرضية عقائدية رخوة.

وکما اسلفنا، فإنه على الرغم من تطور و تقدم النموذج الايرانية و أقدميته، لکنه لم يکن يتحلى بذلك القدر من المبدأية و الاستعداد لجهوزية المجابهة و المقارعة مع الغرب بشکل عام و الولايات المتحدة الامريکية بشکل خاص، وانما کان يسعى دوما للحيلولة دون ذلك و يستخدم اساليب متباينة في إنابة غيره للقيام بتلك المهمة بدلا منه، لکن النموذج الافغاني الذي يوغل في التمسك بسبل بالغة البدائية و التخلف، لم يکن متسما بالحکمـة اللازمة لتقدير قوة خصومه و أعدائه بل وحتى کان يستخف بها، مما دفعه ذلك الى أن يصبح تحت دائرة الضوء و يلفت إليه الانظار وخصوصا بعدما منح تنظيم القاعدة و زعيمه اسامة بن لادن المکان و المأوى المناسبين، ومن هنا، وبسبب من هذه الاهمية الخاصة لدولة طالبان، فقد إرتأينا أن نتناول سقوطه و ارتباط ذلك بقضية الدولة الدينية و ظهور بوادر فقدانها لذلك البريق الکبير الذي کان يحيط بها لأسباب مختلفة، ومن ثم نأتي على علامات الضعف و بدايات السقوط لدولة ولاية الفقيه في إيران.

سقوط دولة الملا عمر في أفغانستان(حيث يتجلى التخلف بأوضح صوره و تعابيره)، لم يکن بتأثير الاجتياح الامريکي لهذه الدولة کما قد يتصور الکثيرون، وانما کان اساسا بتأثير مباشر و جلي من الازمة الخانقة التي کانت تعيشها هذه الدولة و التي کانت من القوة بحيث لم يکن في وسع ثلة الملالي المتزمتين الوقوف بوجهها و التصدي لها، لقد کانت المسألة في جوهرها صراعا بين معطيات و مفاهيم متحجرة و أخرى تنويرية و متجددة.

لقد سعى الملا عمر و الرهط المساير له من تنظيم طالبان المتشدد، لإقامة دولة منغلقة على نفسها و منقطعة عن العالم من جهة، وفي ذات الوقت ذات تأثيرquot;فکريquot;وquot;سياسيquot; قوي على الدول الاسلامية من خلال طرح نفسها کنموذج حيوي و مثالي لمبدأ الخلافة الاسلامي، وقد رفضت دولة طالبان و بشکل صريح کافة أشکال و صيغ نماذج الدول القائمة في البلدان الاسلامية و إعتبرتها خارجة او منافية للنص الديني و إعتبرت ما قامت بتشييده من مؤسسات و هياکل بدائية متخلفة تقوم أساسا على مرتکزات عشائرية و قبلية البديل الافضل و الامثل لها.

وقد کانت دولة طالبان تعتد بنفسها و برؤيتها و فهمها للأمور من المنظور الاسلامي الى درجة أنها کانت ترفض الاذعان لأية رؤية او منظور اسلامي آخر حتى لو کان من عالم اسلامي مشهور کيوسف القرضاوي عندما توجه الى کابل لحثها على عدم هدمها لتماثيل بوذا، لکن الملا عمر و قيادة طالبان، رفضت وساطة القرضاوي و الحجج و التبريرات التي أطلقها من أجل إنقاذ التماثيل المذکورة من معول التخلف الطالباني، وکان هذا الامر بمثابة رسالة خاصة جدا و ذات مغزى عميق لمختلف الاطراف الاقليمية و الدولية دفعتها لکي تفکر مليا بهذه الدولة الغريبة و تتحسب لها مستقبلا.

وکان من الغريب جدا أن ينشد العديد من الشبان من مختلف الدول العربية و الاسلامية الى کابل و يمشوا على خطى و مبادئ هذه الدولة بل وانهم تجاوزوا حد الالتزام المبدأي الى الاستعداد الکامل و غير المشروط للدفاع عنها و الموت في سبيلها، وبعدما کان النموذج الاسلامي السائد في الذهن العربي او الاسلامي مشتقا من صورة مأخوذة من التراث و التأريخ العربي الاسلامي، تغير هذا النموذج ليحل محله النموذج الافغاني الذي يبدو انه قد تجاوز و بقوة الحدود الجغرافية للدولة و تمکن ليس من الوصول الى الدول العربية و الاسلامية فقط وانما تجاوزها الى الدول الغربية حيث تقطن جالية مسلمة عريضة، وبات من المألوف في الغرب أن تبصر رجالا او شبانا مسلمين ملتحين و يلبسون ثوبا قصيرا نوعا ما، من النمط الافغاني، رغم اننا يجب أن نشير هنا و بوضوح الى أن الکثيرين من المأخوذين و المنبهرين بالنموذج الطالباني هذا في البلدان العربية و الاسلامية، وبحکم النظم السياسية القائمة فيها، ليس بوسعهم أبدا التمظهر و الخروج بهذهquot;الحلةquot;الطالبانية أمام الملأ، لکنهم و في قرارة أنفسهم يتوقون الى ذلك و يدعون من ربهم و يتوسلونه کي يسبغ عليهم نعمة لبس ذلك الثوب القصير الذي يصل حده مابين القدم و الرکبة، غير أنهم و فيquot;بلاد الکفر و الافرنجةquot;، يلبسونه کيفما يحلو لهم، لکن لايکمن الإشکال في هذا الثوب الرجالي الغريب، او ذلك البرقع و الشادر النسائي الطالباني، بقدر مايکمن الخطر في الفکر و العقيدة التي يجب أن تتلائم و تترافق مع ذلك الطراز من الملابس الافغااسلامية إن صح التعبير.