كعادتي من وقت لآخر اعشق الطبيعة السويسرية وأهيم في جبالها ووديانها وينابيعها وجوها البارد الساحر الأخاذ. اذهب إلى هذه الأمكنةالتي تمنحني الهدوء والسلام والخيال الخصب، وكلما جلست اتأمل في جبل يكسوه الثلج في عز الصيف بعد عناء فترات طويلة من العيش تحت سماء مغبرة... أتساءل غير معترض على قدرة اللهالذي يهب من يشاء هنا أو هناك حسب ما يستحقون من طبيعة. فتكون الطبيعة هنا معشبة مخضرة ممطرة وتكون هناك مغبرة مقفرة جافة!

وكلما أتيت إلى هذا المكان يكون سؤالي الذييطرق باب عقلي دائما : هل الطبيعة انعكاس للإنسان أم العكس؟!

وأنا أصدقكم القول أنني أميل إلى الاعتقادبأن الطبيعة مرآة لفكر الإنسان وروحه ومشاعره. لأنني أدركت منذ أن وطأت قدماي ارضسويسرا عام ال 98 م أن الإنسان هنا ارتقى بفكره ومشاعره إلى درجة سامية استحق معهاأن يهبه الله هذه الطبيعة الجميلة فكان كفؤا لهدية الله عندما حافظ على جمال الطبيعة ونظافتها وصنع نظاما يقدس الحياة ويحترم الإنسان ويعدل في قوانينه التيلاتميز بين إنسان وآخر.

قد يعتقد البعض منكم أنني رجل ثري املكالكثير من المال واذهب هنا كي أمارس لعبة الثراء، لكنني أقول لكم بصراحة أننياستدين ثمن رحلتي إلى هنا كي أتمتع بهذا الجمال الإلهي الثري، لأن المال لايعنيلي شيئا عندما اصرفه ثمنا للعيش في مكانيشعرني بآدميتي وحريتي متجردا من كل الأسباب التي تخلق لي إحساسا بالقبح. لكنني استمتع بالطبيعة والمكان أكثر من أي ثري لايهمه الا التمتع ببذخ المال وسمعة المكان دون التمتع ببذخ الطبيعة وروعة الجمال وجنون الخيال المتمرد على كل القيود.

هنا: يتعانق الثلج مع خضرة الطبيعة، وتنبعث ينابيع الماء من كلمكان لتصب في الأودية التي لاتلوثها يد الإنسان المتخلف.

هنا : أتمنى أن أعيش كل العمر وأن اقدرعلى دفع تكلفة العيش في هذا المكان حتى لو اعمل جرسونا في مطعم. وسأكونممتنا لمن يدفع لي ثمن العيش هنا كل عام لمدة شهر كامل واعتقد أنها اكبر صدقة لمن يريدعمل الخير، خاصة عندما يكونالمستفيد إنسان مثلي يعشق الطبيعة ويداعب القلم كي يكتب خواطره بما يثري العقولويرتقي بها من واقع الغبار إلى قمم الثلج. ولم لايدفع أثرياؤنا جزءا يسيرا من اموالهم لمن يثري عقولهم بالفكر بدلا من دفعهم تلك الأموال الكبيرة على لاعبي كرة القدم الأكثر أمية وسطحية والأقل منفعة؟!

هنا : يا سادتي... يقول لي احد أطفالي رداعلى ممازحتي عندما قلت له وأنا اتأمل في منظر طبيعي ساحر.. اذهبواواتركوني هنا..أعيش وحدتي وتأملي... يقول لي : بل اذهب أنت واتركنا هنا.. نعيش تأملنا وفرحتناالتي لا تستطيع أن تتخيلها أيها المفكر!

ضحكت بألم.. وشعرت أننا جميعا متعبون.. فيواقع عربي لايزال يثور على جلاديه الذينيتلذذون في استعباده منذ أربعون سنة ويرفض الجلادون ان يرحلوا.. في عصر يشهد أبناؤهالأحرار أعظم حضاره يتمتع فيها الانسانالحر بحريته ويتفاخر بإنسانيته!