لاتزال نظرية المؤامرة بوصفها أداة في التحليل والمقاربة، معتمدة و شغالة و إن بدرجات مختلفة و متفاوتة في معظم المجتمعات البشرية،فهي حاضرة لدى بعض تلك المجتمعات، بصفتها عصبا رئيسيا في عمليات التعاطي و التفكير و التحليل، و بدرجة أقل رئيسية وفاعلية في بعضها الآخر. الثابت أنها لم تفقد إغراءها بالرغم من تهافتها و ضعف منطقها الداخلي و هشاشة الموضوعية المتحصلة من استخدامها. فما هي نظرية المؤامرة؟ و ما هي المحددات التي تجعلها منتشرة في مجتمعات بعينها بنسبة تفوق سواها ؟و هل ستنهزم نظرية المؤامرة في الواقع العربي بعد الثورات العربية التي تشهدها المنطقة ؟، تلك هي الأسئلة التي تود هذه المقالة الإجابة عليها باختصار.

يمكن ضبط مفهوم نظرية المؤامرة وفقا لكونها القراءة التي تؤكد على وجود افتراق كبير يصل حد التناقض، بين ما ترصده الحواس و تلامسه من حدث ما يقدم نفسه لها من خلال حدوثه، و بين حقيقة الحدث و جوهره و مضامينه الحقيقية، هي إذا قراءة تكرس الانفصال التام بين بنية الحدث و بيئته، و الشكل الذي يقدم فيه الحدث نفسه،مقدماته و أسبابه و بين حقيقته المضمرة أو دلالاته المستبطنة.

نظرية المؤامرة هي منهجية تحليلية دائما ما تفسر العالم انطلاقا من وجود مؤامرة لا تشير الحيثيات و وسائل التحقق التجريبية إلى وجودها، ضعف نظرية المؤامرة و ختلها في الوصول إلى الواقع تحليلا و تفسيرا و الاقتراب منه ما أمكن،لا يشكل نفيا لفكرة المؤامرة و وجودها،هي موجودة بالفعل، لكن ليس دائما أو غالبا،و يجب لإثبات وجودها الالتزام بأدوات تحليلية علمية رصينة و اتباع طرق و أدوات استدلالية و منطقية تؤكدها نوافذ الوعي،الحواس،و لا تنفيها.مولدات عديدة تدفع نحو اللجوء إلى نظرية المؤامرة في مقاربة الواقع و أحداثه و تحليلها، منها الانطلاق الرغائبي في عملية التحليل،أي إخضاع قراءة الواقع للرغبة في الوصول إلى نتيجة معينة، تعكس إيمانا أو حاجة أو وسيلة للدفاع عن الذات المحللة و القارئة،و منها الكسل المعرفي و الاستسهال، فالواقع صعب و معقد و لا يقدم نفسه بسهولة، و عملية التحليل ذاتها، تتطلب إلماما و صبرا و إعمال للعقل و تملكا لأدوات تحليلية و قدرة على التجرد من الموقع و المصالح ما أمكن. يرتفع منسوب شعبية نظرية المؤامرة، استخداما و قبولا، بحسب المنهجية النافذة في الوعي المعرفي لمجتمع ما و على أساس واقع هذا المجتمع و إحداثياته السياسية و الاقتصادية التنموية، فالمجتمعات التي انتصرت فيها المنهجية العقلانية الحديثة أسلوبا للعلاقة مع الواقع و العالم قراءة و تفاعلا، المجتمعات التي تتقدم فيها العلوم التجريبية و تأخذ بأسباب العلم في حياتها الخاصة و العامة،و المجتمعات التي تنعم بالديمقراطية و تثق بقدرتها على تحديد مستقبلها و توجيهه على النحو الذي تريد، تتضاءل فيها كثيرا نسبة القائلين و العاملين وفقا لنظرية المؤامرة.أما المجتمعات التي لا تزال بعيدة عن قراءة عالمها بالاستناد إلى مقولات العلم وحقائقه، و التي تعيش استلابا ذو هيئة سياسية أو اقتصادية فهي مجتمعات تميل أغلبيتها للتحليل وفقا لنظرية المؤامرة و لبناء الموقف و تحديد مسار العمل تبعا لنتائج تطبيقها.

على أن نظرية المؤامرة و على الرغم من تعرضها لتداول الألسن و الأقلام نقدا في مرات كثيرة، إلا أنها لا تزال و حتى وقت قريب، محافظة على أساسيتها و تلقائية استحضارها في معظم قراءات الإنسان العربي أثناء مواجهته أي حدث أو تطور أو وضع أو معطى، النجاح الذي كانت تلقاه هذه النظرية في العالم العربي، ظل من اكبر النجاحات التي حققتها في أي مكان من العالم، لاعتبارات و أسباب كثيرة، منها ما هو ذاتي و متعلق بالذات المعرفية العربية التي بقيت دون أفق النهضة و التحديث، و منها ما هو موضوعي،و ينشد إلى الواقع العملي و اليومي الذي يعيشه الإنسان العربي، سماته السياسية و الاجتماعية،واقع الاستبداد و التعمية و الإفقار و التضليل السياسي و الأيديولوجي و الإعلامي الذي يرهقه و يقمعه و يستهلك ملكاته و طاقته.

فهل تنجح الثورات العربية السلمية الأخيرة بعد صناعتها الذاتية لواقعها و إبداعها الخلاق لأدواتها، و تحديها في إنتاجها لمستقبلها و حياتها لمصالح قوى إقليمية و دولية نافذة و نجاحها في ذلك، هل ستنجح في التأسيس لمنطق جديد آخر في المنطقة العربية و الشارع العربي، يضعف إلى حد بعيد من رواج منطق المؤامرة بوصفها نظرية للتفسير و أرضية للتفاعل مع الذات و العالم ؟ سؤال ليس صعبا الجواب عليه بنعم، ففي منطق الثورات العربية الداخلي ثقة طاغية بالذات و دينامية كفيلة بتحقيق ما كان في الأمس القريب معجزات حقيقية، ذلك المنطق يتناقض مع المنطق العاجز الذي تبتني عليه نظرية المؤامرة في أي مجتمع و تشتغل، فالمنطقة العربية التي تعيش مخاضها التاريخي هذه الأيام ستكون منطقة واثقة بنفسها و مشاركة في صناعة الحضارة الإنسانية في المستقبل.وهذا ما ينتظره العربي و يتطلع إليه بكل تأكيد.


رئيس حزب الحداثة والديمقراطية