بينما كانت نتائج الدورة الانتخابية الأخيرة تعلن، كانت تصريحات المالكي تتوالي متوترة متشنجة، متوعدة، يومها كتبت في (إيلاف) وفي جريدة (العالم) البغدادية، أن المالكي لن يغادر كرسيه مهما كانت النتائج،وإنه لن يقدم لا الأرنب ولا الغزال! وبالطبع أتعس ما يعانيه كاتب، هو أن يجد توقعاته السيئة تتحقق،وهي كذلك عادة، بينما أمله وتفاؤله يذهبان أدراج الرياح!

بعد أن استقر المالكي في السلطة،وأسكت البرلمان والرأي العام بحكومة مترهلة مرقعة ناقصة لأهم وزرائها، مبقياً مهامهم الخطيرة، مع كل المهام الأمنية والمخابراتية، بيديه، وبيدي أعوانه المجهولين، بدأ يتحرك وبقوة، وليس بذكاء كاف طبعاً، لحرق معارضيه ومنافسيه وخصومه، وحتى الأصدقاء الذين تناقصت صداقتهم له لسبب أو لآخر!

أنه يتبع طريق صعود الدكتاتور، الذي لا يحتاج بالضرورة لثقافة تاريخية عميقة، أو إطلاع على تجارب الدكتاتوريات، فطريق الاستبداد والهيمنة، والانفراد بالسلطة، وانتهاج القمع، والعنف والدعاية المخالفة للحقائق، نزعة فطرية،عادية يمكن للحاكم أن يستنفر من أجلها غرائزه، ويصقلها بثقافة سوق العاديات،بعيداً عن الكتب!

ولكن ثمة تجارب شهيرة أصبحت تفاصيلها مبتذلة لمن عاش في عالم السياسة العراقية، أو كان على هامشها!

فهتلر بعد أن صار مستشاراً لألمانيا عبر انتخابات برلمانية مدعوماً من المال الأنجلوـ أميركي، إبان أزمة الركود الاقتصادي العالمية، وامسك بكرسي السلطة، قرر أن لا يغادره حتى ولو على أسنة الحراب، كان أخطر منافسيه آنذاك هم الشيوعيون، ولكي يتخلص منهم، أفتعل عام 1933 حريق الرايخشتاغ ( البرلمان) وألقى جريرته عليهم، بينما كانوا هم منها براء، بعد أن تخلص منهم، شدد قبضته على الجميع، ومضي معلناً الحرب على العالم كله!

هكذا فعل صدام في سلسلة أخرى من افتعال مبررات التخلص من الخصوم، في السبعينيات ادعى أنه اكتشف مؤامرة للشيوعيين، تهدف إلى قلب نظام الحكم. أعدم في ليلة واحدة 27 شابا شيوعياً بريئاً، وشن حملة ملاحقة كبرى للشيوعيين، وتخلص منهم، بين مغيب في السجون، أو شريد في المنافي!

وعند إزاحته البكر، حول معارضة نصف قيادة حزبه له إلى مؤامرة،وجعل أعضاء النصف الآخر يعدمونهم بأيديهم، ومضى إلى حروبه المدمرة!

كذلك فعل موسيليني في ايطاليا، وكل الدكتاتوريين في أمريكا اللاتينية والعالم: حرق الخصوم والمنافسين مادياً أو معنوياً، و بطريقة وحشية رهيبة، والتفرد في السلطة، بعدها لا يجد الدكتاتور من يحرق، سوى أصدقائه ورفاق دربه، وفي النهاية يحرق نفسه!

المالكي اليوم يسير على الطريق نفسه، فهو قبل أيام شرع في حرق منافسه إياد علاوي، بطريقة فجة، ومضحكة، ولكنها بشعة ومدمرة أيضا!

استغل صورة عفوية تجمع علاوي بإرهابي متهم مع آخرين بمجزرة فظيعة في الدجيل، فأوعز لأنصاره لحملها محاولاً أن يحرقه وقائمته بها،ورغم أن كثيراً من الناس لا يمكن أن يصدقوا أن علاوي يتستر على الإرهابيين، لكن كثيرين آخرين يريدون أن يصدقوا ذلك، ويصعب احتساب تصوراتهم وردود أفعالهم،وفعلاً حدث طعن بالسكاكين،وضرب بالعقل العربية، في نفس المكان الذي جرت فيه المحرقة!

جريمة الدجيل كما تقول السلطة وقعت قبل سنوات، وفي عهد المالكي نفسه،وحزب الدعوة! وجريمة بهذا الهول والبشاعة،لو أعلنت في حينها كانت ستهز البلد، وربما تستنفر الناس رغم مصائبهم، للبحث عن الجناة،للقصاص منهم، ترى لماذا لم تعلن في حينها؟ ولماذا لم يلاحق مرتكبوها؟ وأي رئيس وزراء في العالم تقع هكذا جريمة تحت سلطته ويستطيع أن يغمض أجفانه وينام؟ حتى لو كانت قد حدثت في عهود سابقيه، ترى من الذي يسأل عنها؟ ومن الذي ينبغي أن يحرق بها؟ المالكي أم علاوي؟ حزب الدعوة أم العراقية؟ لكن قلب الحقائق، واستثمار آلام الناس وعذاباتهم من أجل السلطة، هي من أهم خصائص الاستبداد والدكتاتورية!

والأمر أكبر من مسرح صراع على السلطة الحالية، إنه مؤشر على المستقبل كله!

مؤشرات صعود المالكي كدكتاتور لا تنحصر بعمله على حرق خصومه وحسب، بل استشراء الفساد المصان في عهده بالحصانة الدبلوماسية، في العراق اليوم: (الليالي من الفساد حبالى مثقلات يلدن كل عجيب! مع الاعتذار للمتنبي)، وفي سحقه لآخر نأمة ديمقراطية في الوضع العام، بضرب المحتجين المسالمين في ساحة التحرير، وسخريته من المعترضين، التي جسدت إحدى مآثرهم هناء أدور، وفي كونه محكوماً بأيدلوجية طائفية معادية للديمقراطية، وروح العصر،وثقافته، فالدين والتفويض الإلهي منذ فجر التاريخ أخصب حاضنة للحكم المطلق، ولضروب من الفاشية والدكتاتوريات!

يكون الدكتاتور قد نضج تماماً، وأصبح طليق اليد مدى الحياة، حين يكون حزبه خانعاً مهطعاً ومجرد أمعة، كحزب البعث سابقاً، ولم نسمع عن حزب الدعوة في انشطاراته الأميبية أنه صوب لقائده رأياً أو موقفاً أو سلوكاً، كل همه وضع أعضاءه ومناصريه في مناصب لا يستحقونها، وحشو أرصدتهم، والتشهير الطائفي بالآخرين!

ويخطئ من يعتمد على الدستور لمنع المالكي من البقاء في السلطة بعد أن مكث فيها دورتين، فالعراق اليوم يفتقد لمرجعية حقيقية لحماية الديمقراطية، وقد جرى التلاعب في تفسير الدستور بعد ظهور نتائج الانتخابات من قبل المحكمة العليا تحت ضغوط مفضوحة! والمالكي صرح قبل أيام أن من حق مجلس الوزراء إصدار قوانين، وربما هو بذلك يمهد لتعديل دستوري يلائم طموحاته الجامحة! بعيداً عن البرلمان صاحب الاختصاص الوحيد!

نبرته الواثقة في ذلك لا تستند إلى منجزاته، فتجربة المائة يوم تؤكد أن الطاحونة ما تزال تطحن هواءً! إنه يستند على قوة بقدر غموضها أصبحت معروفة! فهي مجسدة في العديد من الأجهزة المرتبطة به، وبجناحه من حزب الدعوة،مذكرة بجهاز حنين وما يشبهه من أجهزة صدام السرية، وتحت يده تخصيصات بمليارات الدولارات! وهذه كلها لا تقع تحت رقابة البرلمان، أو أجهزة الرقابة المالية أو لجنة النزاهة ولجنة مكافحة الفساد!هكذا إمكانات قادرة على صنع دكتاتور وفق احدث المواصفات، وبطواقم من دعاة وكتاب ومطبلين وشعراء شعبيين ومغنين باعوا ضمائرهم، مزينين صورته كما كانوا (هم)، أو غيرهم يفعلون لصدام، مدعين حقه في الحكم بهكذا ألاعيب، والتوريث أيضاً!

من السذاجة مناشدة الدكتاتور أن يرعوي ويعدل عن طيشه، المسؤولية تقع على من أوصله لموقعه الخطير، الناخبون الذين في كل مرة يقولون أنهم لن ينتخبوا وفق الدافع والفتاوى الطائفيتين، يعودون للانتخاب وفقهما وبحماس اشد، ظاهرة الدكتاتور كالسرطان لا تعالج بعد أن تستشري، يجب أن يكون هناك من يقول للدكتاتور منذ الآن : قف! إلى أين أنت ذاهب؟

قديما قال أنبياء وفلاسفة ( كيف ما تكونوا يولى عليكم) لقد أصيب العراقيون بغيبوبة طويلة، وحالة معقدة من الخنوع، والغفلة، سمحت لصدام وأعوانه أن يمروا تحت بصرهم وسمعهم، واليوم على العراقيين أن يبذلوا كل ما يستطيعون، لكي لا يسمحوا لدكتاتور آخر أن يمر مهما تلفع بالمقدسات،ومهما بذلوا له من خزائن المقدسات والخرافات!