كالعادة، جاء خطاب الأسد الثالث أيضاً دون التوقعات، لا بل دونها بكثيرٍ جداً. أقلّ ما يمكن أن يقال فيه، هو أنه كان خطاباً فاشلاً بإمتياز. كان فيه من اللاسياسة أكثر من السياسة، ومن اللامسؤولية أكثر من المسؤولية، ومن اللاحوار أكثر من الحوار، ومن المشاكل أكثر من الحلول. من يتابع خطابات الرئيس السوري بشار الأسد الأخيرة، والتي من المفترض بها أن تقدم أجوبةً محددة على أسئلةٍ سورية محددة، سيكتشف دون عناءٍ، أنّ الرئيس لا يتجاهل ولا يقفز على ما يريده الشعب في الشارع فحسب، وإنما يتكابر عليه أيضاً. قاعدة النظام الأساسية بسيطة جداً: إما أنت معه تنفخ في بوقه، وتنادي ملئ حنجرتك quot;الله..سوريا..بشار وبسquot;، أو تكون ضده. رغم أنها باتت قاعدة حمقاء وغبية جداً، أكل عليها الزمن وشرب، ولكنها لا تزال سارية المفعول في quot;سوريا الأسدquot;، على كلّ داخلٍ سوريّ وكلّ خارجٍ أيضاً. الواضحُ، هو أنّ الأسد يتحاشى في خطاباته الأخيرة، عن سابق قصدٍ، استخدام أية إشارات أو مفردات توحي المتلقي، بأنه quot;متجاوبquot; مع مطالب الشعب، أو أنه quot;يفهمهاquot;، أو quot;يقدرّهاquot;، أو quot;يعطيها حقهاquot;. كلّ ما نسمعه ونراه، هو أنه يؤكد على quot;إصلاح قديمquot; حان وقت البدء فيه الآن، ليس لأن الجمهور السوري غاضب عليه وعلى نظامه، ولا يريده، وإنما لأنّ quot;أولوياتquot; نظامه quot;الممانعquot; تطلبت تأخيراً أو تباطؤاً في تحقيق quot;إصلاحٍ quot;، كان متفقاً عليه سابقاً، منذ سنوات. لهذا لا يحبّ الأسد أن يفهم أحد من quot;حزمةquot; إصلاحاته الكيفية المرتقبة، المؤجلة إلى أجل غير مسمى، بأنها quot;تنازلاتquot;(لا سامح الله) وإنما يحاول إفهامها بأنها quot;هبةًquot; أو quot;نعمةًquot; من الرئيس، كان قد نواها من قبل، لأجل quot;تعزيزquot; الثقة بين الشعب ونظامه. ما جاء في هذا الخطاب، كان عبارة عن رسائل قديمة جددها الرئيس أمام السوريين والعالم، وهي: كلّ ما جاء في هذا الخطاب الرجعي، الذي لا يمتّ إلى زمان سوريا المشتعلة الآن بصلةٍ، يبدو كلاماً في الهواء لرئيسٍ كأنه ليس من هذا العالم. الرئيس الأسد، ليس من هذا العالم، ربما لأنه لا يعيش العالم، لذا لن يترك العالم يعيش.
لم يأتِ الخطاب بأيّ جديدٍ يذكر. الجديد فيه، كان حضور الرئيس فقط، بعد غيابٍ طال أكثر من شهرين، صام فيهما عن الكلام. كلّ ما جاء فيه، كان عبارة عن quot;وعود قديمةquot;، ملفوفة بكلام مكرور لا جديد فيه سوى طلعة الرئيس ومنبره، حيث اختار هذه المرّة دار العلم(الجامعة) بدلاً من دار البرلمان والحكومة..
لا بل الأصح، هو أنه كان خطاباً quot;رجعياًquot;، ومتخلفاً جداً عن مواكبة الشارع السوري الذي quot;يريد إسقاط النظام في وادٍquot;، فيما الرئيس quot;يريد إسقاط الشعب/ الجراثيم في وادٍ آخرquot;.
فهو، كلما تحدث في جديد سوريا الراهنة، وجديد شوارعها الغاضبة، سرعان ما يقفز على الحقيقة السورية الساطعة، إلى عكوسها وأضدادها. فالشعب الذي يريد حريته لا يمكن له وفقاً لفقه نظامه، إلا أن يكون quot;دهماء غوغاءquot;، وquot;جماعات سلفيةquot;، وquot;مخرّبين خونةquot;، وquot;جراثيم متآمرةquot;، وكذا المطالبة بالحقوق لا تستحق إلا أن تكون quot;إضعافاًquot; للشعور القومي وquot;وهناًquot; لنفسية الأمة؛ أما الخروج إلى الشارع، فلا يمكن اعتباره إلا خروجاً على حدود الوطن وتجاوزاً على سيادته.
وسبب تحاشي الأسد لأي تجاوبٍ واضح وصريح مع الشارع السوري، هو على الأرجح، لأنه يرى في ذلك quot;تنازلاًquot; قد يؤدي في النهاية إلى اهتزاز عرشه وصورته أمام شعبه. هكذا يفهم الرئيس، على الأغلب، علاقة quot;الرئيس الضرورةquot; مع الشعب، الذي ليس في مفهومه إلا quot;صدفةً مارقةquot;. فالشعب quot;مارقٌquot;، في فقه الرئيس، أما هو فباقٍ إلى الأبد.
الرئيس لم يفهم، حتى اللحظة، أنّ في اعتذار القائد الخطأ أمام الشعب قوة صحيحة؛ وفي اعتراف القائد في حضرة الشعب بفشلٍ ماضٍ فرصةٌ كبيرة لنجاح قادم؛ وفي تصحيح القائد لذاته أمام الشعب تصحيحٌ للوطن وترجيحٌ لمستقبله.
1.سوريا مستهدفة، وما يجري فيها منذ أكثر من 3 أشهرٍ، ليس إلا مؤامرةً دولية، تقودها جهات خارجية، وتنفذها quot;جراثيم سوريةquot;، سلفية، تكفيرية، في الداخل.
2.quot;سوريا الأسدquot; ماضية في quot;مشروعها الإصلاحيquot;، كما يشاء النظام وفي الوقت الذي يشاءه.
3.ما يجري في سوريا هو شأن محض داخلي، لا شأن لأحد به، فأهل النظام أدرى بشعاب سوريا ومشاكلها، وإيجاد الحلول لها.
4.quot;سوريا الأسدquot; ستشهد quot;حواراً وطنياًquot;، ولكن كيف، ومتى، وحول ماذا، ومع من، فذلك متروكٌ لأهل النظام فقط، فهم الأقربون لسوريا، وهم الأولى بالمعروف.
5.لا إصلاح مع مطالبة الشعب بحقوقه وحرياته، أو ما سماها الرئيس الأسد بquot;التخريبquot;، ما يعني أنّ شرط quot;الإصلاح الموعودquot;، الذي لا يزال إصلاحاً من دون علامات، وبلا سقف زمني محدد، هو سكوت الشارع، وتنازله عن حقوقه في الحرية واختيار مصيره بنفسه.
6.quot;سوريا الأسدquot; لن تقلّد الآخرين، وإنما هي ستعلمهم دروساً لم يتعلّموها من قبل.
7.النظام باقٍ والرئيس باقٍ، ومن يرفع شعار إسقاطهما ليس له إلا أن يسقط.
هو ليس من هذا العالم، ليس لكونه كائناً من عالم الميتافيزيك، أو الماوراء الديني، بمعناه التصوفي الروحاني، كما قد يُفهم، وإنما لكونه رئيساً يستقل وراء السياسة، أو تركبه السياسة بدلاً من أن يركبها.
هو ليس من هذا العالم، وكأن ليس له عيوناً يرى بها، أو آذاناًَ يسمع بها، أو مشاعر يشعر بما يجري ويحدث من قتلٍ وبطشٍ واعتقالٍ وتعذيبٍ وتشريدٍ وتهجيرٍ، يومياً على مدار الساعة، في بلدٍ تحكمه شبيحته وأجهزة أمنه، بقبضةٍ من حديد.
هو ليس من هذا العالم، لأنه لم يقرأ دفاتر الشعوب العربية الشقيقة من حوله، تلك التي قالت بإسقاط أنظمةٍ عتيقة مهترئة على شاكلة نظامه، وفعلت.
هو ليس من هذا العالم، لأنه لا يزال ينظر إلى العالم بمنظار quot;بعث الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدةquot;، من مثوى الراحل أبيه، ويكيله بمكياله.
هو ليس من هذا العالم، لأنه لا يزال مصرّاً على حكم سوريا اليوم من quot;وحيquot; القبر، بقبضة أبيه الماضية، كإصراره على تعليم السوريين من دفاتر quot;مقاومةquot; أبيه الماضية.
هو ليس من هذا العالم، لأنه لم يفهم بعد، أنّ بين الصعود والسقوط، في زمن الشرق الأوسط الجديد، هناك شارعٌ واحد، أو شعارٌ واحد، بات مقوداًَ من قبل شعبٍ واحد؛ شعبٌ اختار أن يكون الحياة، في أكثر من مكانٍ وزمانٍ عربيين، فاستجاب له القدر.
- آخر تحديث :
التعليقات