كنا نلتقي بين الفينة والأخرى, لكن هذه المرة كان اللقاء طويلا. تحدث صديقي عن مقابلة لصحيفة كردية كان سيجريها مع أحد الكتاب العراقيين الشيوعيين حول نشوء الدكتاتورية من خلال التصور الثقافي بعيدا ً عن التصور النفسي أو التصور السياسي. لقد ألتقينا سابقا, قبل أكثر من خمس سنوات تقريبا ً, وكان الحديث حينها عن مشروع الدولة الكردية وحق الشعب الكردي في اختيار مصيره. لم أختلف معه حينها حول حق تقرير المصير لأي أمة وأي شعب, ولكن كانت هناك ملاحظات على الطريقة والتوقيت. أما اليوم, فقد نسينا حديث الأمس وتحدثنا بشيء آخر, ألا وهو تعثر المشروع الديمقراطي في العراق, في كردستان كما في بغداد. المشكلة كما يقول صاحبي أن هناك من يريد أن يقدم ما يجري في كردستان العراق على إنه نموذج ناجح للديمقراطية. إلا أن المشكلة أن مايجري في بغداد الآن يجري في كردستان من السير عكس الديمقراطية من خلال قمع الأصوات الحية, ومصادرة الحريات, وإحتكار السلطة بوسائل مختلفة.

لقد اتفقنا على أن المشكلة في العراق ثقافية وليست سياسية. فالدكتاتوريات هي نتيجة لثقافة بائسة وليست حالة نفسية أو عقدة نقص في الصغر لفرد, على حد قول ايرك فروم, فيصبح الشخص دكتاتور بالصدفة, فربما تلك عوامل مكملة لشخصية الدكتاتور. فنحن من نصنع الدكتاتوريات بطريقة أو بأخرى. وعندما سقط الصنم الذي كنا نعتقد بأنه سبب كل مشاكلنا, أكتشفنا أن المشكلة ليست بالصنم ولكن بنا نحن بعد أن أصبحنا في مواجهة مباشرة مع أنفسنا لتقول لنا الحقيقة المرة. فبعد التحولات التي حدثت في العراق عام 2003, كنا نأمل بعراق ديمقراطي حر. تكون به السيادة للشعب عن طريق الديمقراطية الواعدة فنبدأ الطريق الطويل من صناديق الإقتراع. لكن المشكلة أن السلطة لم تصل إلى الشعب العراقي, فقد إنتقلت من الفرد والحزب الواحد إلى المؤسسة الدينية والعشائرية, فالأولى غارقة بطائفيتها والثانية تتبجح بشوفينيتها. ولكن, هل صحيح أن ليس بالأمكان أحسن مما كان! سؤال مهم, تناقشنا به من خلال طرح موضوع ماهي هوية العراق الحقيقية؟

هل العراق عربي..شيعي...أم سني؟ هل يتجه شرقا ً بالرغم من أفول الإشتراكية, أم غربا ً حيث الليبرالية بكل صنوفها! أسئلة مهمة حقا ً. لابد من الذكر أن مفهوم الهوية الوطنية هو شيء متغير وقابل للتغير. فالهوية, والتي تعني الشعور بالإنتماء, تتغير بتغير هذا الشعور الذي يكون نفسه الآن في هذه اللحظة في سياقات ما بعد الحداثة. وهذا يعني أن النمط القديم من الشعور بالإنتماء سيضعنا في خانة معينة كشيعي أو سني, كردي أو عربي. أن هناك الكثير من السياسيين الذين لايريدون أن يفهموا بأن الهوية الوطنية والشعور بالإنتماء تغير كثيرا ً, وبالخصوص في الدول المتقدمة. إنهم يخدعوننا من خلال التسويق للنمط القديم, والذي يعبر عن افلاس فكري وسياسي. فقد سخروا كل طاقاتهم وجهودهم من أجل أن يشعرونا بأنا عرب أو كرد, شيعة أو سنة فقط.

إن ما يجمعني مع صديقي الكردي أكثر بكثير مما يجمعني مع أخوان وأصدقاء آخرين لي من نفس الدين والمذهب. بالتأكيد أن هذا شعور رائع يعبر عن الإنتماء المشترك. وكما يقول المنظرون أن القصة المشتركة أو الحكاية من تجعل الأشخاص ينتمون لشيء واحد. فهل يقص علينا سياسيونا قصة واحدة لعراق واحد! أم وسائل إعلامهم تركز على العراق السني أو الشيعي, العربي أو الكردي, أما الباقون فهم حالة طارئة على العراق وستنتهي يوما ً ما. يخدعوننا بحروب مقدسة من أجل مدن ننتمي كلنا اليها, وأن لم نرها, لكننا وأياها لدينا نفس القصة والحكاية, وليس أقل من قصة الظلم الذي عشناه سوية في زمن الطاغية. يقصون علينا حكاية تاريخ واحد ولغة واحدة, وكأننا نعيش في الفضاء حيث لاذكر لوجود الآخر الذي يعيش معنا منذ الآف السنين في في تلك الحكاية.

هناك من يبحث للعراق عن هوية عربية, ويريد أن يبني جدار مع إيران, ويقول العراق عربي, وليس له مانع من بدأ حرب مفتعلة مع أيران من أجل عيون الوطن العربي. نعم, هذه قصة للعرب فقط, يتبجح بها القوميون في قنواتهم الإعلامية تساندهم قوات إعلامية أخرى من البلدان العربية الصديقة وما أكثرها, والأخطر من ذلك أن هناك تلاحم بين القومية العربية والهوية الطائفية! أما باقي القوميات والطوائف فهم طارئون أو ذميون على أحسن تقدير. وهناك من يبحث للعراق عن هوية شيعية ويريد أن يبني جدارا ً حول العراق بعيدا ً عن جيرانه العرب, ويسخر كل قنواته لخطاب طائفي, ليحكي لنل قصة الإمام الحسين, إنه يحتكر الإمام الحسين, بل يتاجر به ليبقى في السلطة مهما كلف الثمن. أما الباقون, فهم بالتأكيد طارئون. وهناك من يريد أن يتخلص من العراق برمته, بعد أن يجف لبنه, ويدخل مع الكل في حروب مقدسة لإنشاء دولة كردية, حرب مقسدة من أجل كركوك وأخرى مع الجارة تركيا وأخرى مع إيران. أما الباقون فهم ضيوف في دولتنا القومية. هل مازال العراق ديمقراطيا ً؟

الديمقراطية التي نتبحج بها تعني المساواة, التعددية, حقوق الأقليات, وهكذا. مع الديمقراطية لايوجد هناك التاريخ المشترك, واللغة المشتركة, والدين الواحد والقومية الواحدة من أجل بناء هوية وطنية موحدة. فتلك المفاهيم تنطبق مع النمط القديم من مفهوم الهوية والذي مازال السياسيون يتبجحون به. أن الديمقراطية لاتحتاج أكثر من الثقافة الوطنية الآنية المشتركة. وهذه الثقافة تعتمد على حكاية جميلة واحدة أسمها العراق. فنحن نشترك كثيرا ً بالأفراح والأتراح, نفرح عندما نسمع أغنية عراقية ونحس بالإنتماء, ونحزن عندما يخسر المنتخب الوطني لكرة القدم. نحتاج لثقافة تعدد الثقافات لبناء هوية قائمة على التعدد وليس على التوحد, فالتوحد يشبه كثيرا ً مرض التوحد بأن يفقد الوطن لغة التواصل مع الآخرين ليعيش لحلمه المقدس الزائف. فالتركيز على الدولة القومية أو الطائفية ذات اللون الواحد يتعارض مع مبادئ الديمقراطية التي نرفعها كشعار, ويتعارض مع مفهوم المواطنة والدولة المدنية الحديثة التي تحترم الكل بلا إستثناء.

شربت الكابتشينو وشرب صديقي الكولا, وشعرنا بأن لنا قصة واحدة رغم الإختلافات البسيطة, في تذوق الأشربة. هذه القصة هي قصة الثقافة التي تنتج الدكتاتوريات والتي لابد أن تتغير في يوم من الأيام, وتحت هذه الثقافة عشنا قصة واحدة للظلم تحت حكم الدكتاتورية. أما اللآن فنعيش نفس القصة مع الغربة التي جمعتنا كثيرا ً, أكثر مما فرقنا به الوطن.

عماد رسن
[email protected]
http://www.elaphblog.com/imadrasan