تتمنى إسرائيل الرسمية على الفلسطينيين أن يعودوا عن مشروع التوجّه إلى الأمم المتحدة لتحصيل اعتراف مبدئي بالدولة الفلسطينية في حدود حزيران 1967. وهي إذ لا تنتظرهم أن يفعلوا، تجاهد على الجبهة الدبلوماسية وغير الدبلوماسية للحيلولة دون إنجاز الفلسطينيين لهذا السيناريو. فاعتراف كهذا سيكون مفصلا هامًا في تاريخ المسألة الفلسطينية والصراع الإسرائيلي الفلسطيني في حدوده الرمزية المعنوية، وفي تطبيقاته العملية وإن كنا نرجح أنها ستتأخّر.

فاعتراف العالم بدولة فلسطينية، بعد اعتراف سابق بحق الفلسطينيين في الدولة، يعزّز روايتهم ويشدّ أزرهم من جهة، ويضع علامة سؤال ضمنية على المشروع الإسرائيلي برمّته. بمعنى، أن الاعتراف العالمي في هذه الظروف من التحولات في كل مستوى، سيشكّل نوعا من الصعقة للنخب الإسرائيلية ومشاريعها وإدارة ظهر عالمية لروايتها للصراع ومحصلاته، لا سيما منذ فشل أوسلو. وهي، وإن كانت مرشّحة للردّ بصلف أو عنف في أول الأمر، لكنها ستكون ساعتها تحت عيون المجتمع الدولي الذي أقرّ للتوّ اعترافه بالدولة الفلسطينية. وهو اعتراف يفتح آفاق واسعة أمام تحرّك دول ومجموعات دول وفق أحكام القانون الدولي وأعرافه في الارتقاء بعلاقاتها مع الدولة الفلسطينية وشعبها ويُحرّرها من حسابات واعتبارات تقيّد أداءها الدبلوماسي في الضغط على إسرائيل وصولا إلى اعتماد إجراءات ضد سياساتها.

من هنا فإن الاعتراف لن يكون مكسبا فلسطينيا رمزيا بل مكسب عملي يشكّل اقترابا من المجتمع الدولي نحو محاصرة السياسات الإسرائيلية ونقدها ومواجهتها. سيساعد في هذا مناخ دولي متحوّل لصالح الشعوب وإقليمي يضيّق الاعتماد المفتوح الممنوح لإسرائيل من بعض القوى ويدفع قوى عالمية إلى الخروج عن صمتها والانتقال إلى الفعل الدبلوماسي الذي يُغطيه قرار دولي ضد الرفض الإسرائيلي لأحكام الشرعية الدولية وquot;منطق التاريخquot;. وعليه، ينبغي ألآ تتراجع القيادة الفلسطينية عن هذا الخيار مهما يكن. خاصة لأنه دبلوماسي يستند إلى الأعراف ويحاصر نزعة العسْكرة والأمن في السياسة والدعاية الإسرائيليتين. خيار كهذا ينبغي أن يترافق مع استراتيجيات العمل المدني ميدانيا في كل مواقع العمل الفلسطينية. بمعنى، ينبغي التزام الممانعة المدنية من اليوم فصاعدا كورقة ضغط تنسجم مع المناخ الدولي آنف الذكر، ومع توقعات المجتمعات البشرية الآن من أصحاب قضية عادلة.

يقينا منّا أن إسرائيل وأطرافا أخرى ستعرض على الفلسطينيين إغراءات ومقترحات للعودة عن مسار الأمم المتحدة. بل ستتعرّض القيادة الفلسطينية للضغوط المتنوعة من جهات متنوعة. وهي هنا في امتحان التاريخ. فإما أن تُعطي معنى لحق تقرير المصير من خلال الشرعية الدولية في مرحلة من التحولات الهامة المناسبة لدفع المشروع السياسي الفلسطيني على مداه، أو أن تنكفئ إلى التكتيك في إطار رؤية ضيّقة في أساسها الخوف من ردّ إسرائيلي راديكالي. أوساط واسعة في إسرائيل، لا سيما في النُخب لم تصدّق كلمة واحدة في خطاب نتنياهو في مؤسسات الحكم المريكية، بل قرأته كمن يضع إسرائيل في مواجهة حادة مع أمريكا والعالم، ويتهرّب من فرصة تحقيق السلام والأمن لإسرائيل. وعليه، ليس هناك أي أساس لأي فلسطيني كي يُصدّق نتنياهو أو مبعوثيه أو بكّاءاته في أوساط الكونغرس أو في أوروبا. لأن القناع الأخير أوشك أن يسقط عن سياسات نتنياهو ونُخبه، ينبغي ألا يكون الفلسطينيون أنفسهم سببا في تأخير سقوطه أو ارتكاب أخطاء تحتجب السياسات الإسرائيلية خلفها.

لقد بدأ نتنياهو المفاوضات المقبلة من الكونغرس الأمريكي. وأعتقد أن على الفلسطينيين أن يبدأوها من هيئة أوسع وأهمّ، هي الجمعية العمومية للأمم المتحدة. بل سيُسهم الفلسطينيون في رفع مكانة هذه الهيئة ويدعمّون الشرعية الدولية إذا أعطوها شرف الاعتراف بدولتهم. وإذا حصل هذا فهو سيساعد على تقوية المركز الأممي على حساب المراكز السياسية. وإذا كان نتنياهو خاطب ممثلي الشعب الأمريكي من فوق رأس أوباما فإن خطوة التوجّه إلى الأمم المتحدة ستكون مخاطبة الأمريكيين وكل شعوب العالم من فوق رؤوس زعماء وقيادات في أمريكا وسواها دعمت إسرائيل أو غضت الطرف عن سياساتها أو تحمّلت صلفها على مضض. بل نرى خطوة كهذه تعزيزا لتوجهات في النُخب والشعب الأمريكيين ترفض سياسات الاحتلال والصِدامية الإسرائيلية على طريقة نتنياهو وتُعزّز من تأثيرها على مواقع صنع القرار في البيت ألأبيض والكونغرس وسواهما.

الأهمّ هو دفع المشروع السياسي الفلسطيني إقامة دولة إلى أمام من خلال الشرعية الدولية. وهي شرعية، إذا تحصّلت على شكل قرار دولي، فإنها تعني، في شقها الثاني، تمكين مجتمعات ودول من الاستناد إلى هذا الحدث الدالّ والتعامل مع إسرائيل بقفازات دبلوماسية غير حريرية سقفها قرار الأمم المتحدة في عالم تتحرّك فيه مراكز قوى عديدة على تناقضاتها. وهو اعتراف يُعيد المسألة الفلسطينية من غربتها ويدفع نتنياهو خارج التاريخ. وهذا صحيح، أيضا، في حال لم يؤدِّ الاعتراف إلى دولة فلسطينية بالضرورة بل إلى فتح آفاق مصالحة تاريخية تتجاوز المفهوم المتقادم لحقّ تقرير المصير والدولة الإقليمية!

[email protected]