كان الملك يتأمل وجهها العتيق بانتظار تنبؤاتها. نظرت العرافة مليا في وجه الوليد الصغير ثم استدارت نحو الملك المتلهف. سكتت طويلا ثم قالت بهدوء: أمام ابنك طريقان. علت علامات التوترعلى وجه الملك. قالت له: إما سيصبح ملكا ممانعا يوسع مملكتك ويجعلها قوة عاتية، وإما سيتحول إلى منارة تمشي وراءه الألوف المؤلفة في الأمصار إلى يوم الدين. لم يفهم الملك طلاسمها. كان يسمع فقط ما يتعلق بالملك والتوريث. سأل بقلق. وكيف نحقق له الملك؟ قالت هذا يتطلب شرطا صعبا، وعليك أن تكون دقيقا وإلا ذهب في طريق القدر. ما هو الشرط؟ قالت له: عليه الا يرى الشقاء، عليك أن تبعده عن المعاناة. عندها ستكون سعيدا بأقوى وريث. نظر الملك إليها بابتسامة واثقة. مرت السنون والطفل يكبر محاطا بحالة من الحماية الجبرية. لو مات عصفور له أخفوه. لو ظهر عليه حزن جلبوا له مهرج القصر. كبر وصار شابا وسيما سعيدا واثقا، ولكن كان الملك يفزع كلما رآى ابنه جالسا في إحدى زوايا القصر ساهيا متأملا بهدوء. كان الملك يسرع نحوه ويحاول إعادته إلى أجواء القصر. وكانت كلمات الأمير وتساؤلاته أيضا تتكرر. لماذا لا تسمح لي أن أخرج من هذا القصر؟ أريد أن أعرف سر الحياة. ولكن الملك الأب كان دائما عنده نفس الجواب: لماذا تتعب نفسك بأسئلة ليس لها إجابات! ومن ثم لن أسمح لك بالخروج من هذا القصر لأن ذاك ليس عالمنا. يا بني وطنك في هذا القصر، عندك كل ما تريد، لماذا تريد أن تخرج من هذه الجنة؟ لقد تعبت كثيرا وضحيت بالكثير حتى صنعت لك هذا العالم. كان الأمير الوسيم يسكت حتى لا يدخل في جدال عقيم مع والده.

لاحظ الملك في وقت أن سكون ابنه بدأ يزيد، ولاحظ أنه كان يتمشى كثيرا لوحده في حدائق القصر. عندها فكر أن الوقت حان لتزويجه، فقام بجلب أحلى وأذكى الأميرات. وسر لما رأى سعادتهما وخاصة بعد مجيء حفيد يشبه جده الملك. كان الملك يشعر بانتصاره على القدر. فها هو ولي العهد أصبح رجلا يافعا، وينجب ولي عهد آخر. وظل الملك يحاول أن يتناسى ويتجاهل تلك العادة التي لم تفارق ابنه. التمشي وحيدا والجلوس بسكون في زاوية بعيدة. كانت علامات التفكير العميقة تقلق الملك الأب وتوتره. وفعلا في إحدى الليالي تنكر الأمير وانسل من بين الحراس،وخرج من القصر. واندس بين الناس. رأى الفقر، والمرض، والملابس الرثة. رأي الحزن، والموت، والعوز. عالم آخر غير الذي عرفه. انصدم كثيرا، وكلما تمشى أكثر في أحياء المدينة رأى المعاناة في كل مكان. تحدث إلى الناس فلم يجد أحدا بدون معاناة. بدأ يدرك أنه كان غائبا عما يحدث في العالم، وأنه كان محميا من معرفة الواقع. عاد إلى القصر ولم يخبر احد بما رآه. وبدأ يحضر نفسه. كان الملك يشعر بأن ابنه بدأ يغادر عالمهم وهو بينهم. وفعلا بعد فترة قصيرة، في سكون ليلة غير مقمرة، وقف الأمير يلقي نظرة الوداع على زوجته النائمة وطفله الصغير، وغادر القصر نهائيا.

اتجه الأمير نحو الفقراء، والزهاد، وعاش معهم لا يعرفون من هو. ورغم كل محاولاته، كان يشعر بأنه لم يعرف معنى الحياة. عرّّض نفسه لكل أنواع التقشف والزهد وشظف العيش، وصام لفترات طويلة في صمت وحيدا بين أشجار الغابات حتى كاد أن يموت. بحث عن كل الحكماء. درس كل النظريات. وكان يوميا يجلس في ساعات طويلة من الصلاة والتأمل. بعد سنين من البحث المتواصل، وبينما كان يجلس متأملا صامتا لساعات تحت ظل شجرة شامخة انفرجت أبعاد السماء والوجود التحم الأمير الزاهد فيها بكينونة الكون. عندما فتح عينيه كان شخصا آخر. كانت المحبة تقطر بحارا ومحيطات من كل شعرة من أهداب عيونه، بينما كان قلبه قد صار بعدا لا متناهيا يسع الكون. شعر بأنه ليس جرما صغيرا في الكون، ولكن بأنه هو الوجود الذي تعيش الأجرام داخله. من أنت قال الذين قابلوه؟ هل أنت ملاك؟ هل أنت إله؟ هل أنت نبي؟ قال لهم، لا، لا، لا، لقد استيقظت فقط.

ولهذا صار الأمير سيدارتها غواتاما ابن الملك يلقب بـ quot;البوذاquot;، والتي تعني quot;المستيقظ.quot; في البداية كان صامتا لا يشرح الحالة التي وصل إليها. عندما ألح عليه الناس، قال لهم، إنها نهاية الشقاء. أرادوا أن يعرفوا سر هذا اللأكسير. وكيف يصلون هم أيضا لهذا؟ افتحوا عيونكم فقط، قال لهم. البوذا يقبع في كل واحد منكم. أقرب إليكم من حبل الوريد ولكن من قربه لا ترونه. في النهاية شرح ما حدث معه في أربع حقائق جوهرية والتي أسست الديانة والفلسفة البوذية. أولا أن الحياة شقاء ومعاناة. ثانيا: أن سبب الشقاء هوهوى النفس وتعلقها برغباتها (فقد خلق الإنسان من علق وتعلق). ثالثا: التحرر من أهواء النفس ينهي الشقاء والمعاناة. رابعا: هناك ثمانية طرق لتحقيق التحرر.

ذاع خبر البوذا، وكثر أتباعه، وعرف الملك أن ابنه المختفي صار ذاك الناسك المصلح الذي ظن أن لن يقدر عليه القدر. بعد فترة، عاد البوذا للقصر لزيارة والده، وبدل أن يقبل بعرض والده أن يعود وريثا له، قرر الحفيد الذي كانوا يهيئونه لوراثة الملك أيضا أن يترك القصر ويلتحق بوالده، وكذلك فعلت الزوجة. حزن الأب الملك كثيرا. ولكن التاريخ لا يذكره، بينما أضاء البوذا الدنيا بحكمته وما يزال.

ويمثل البوذا التقاءالحكمة بالمعاناة الإنسانية. ولذلك بعض السابقين اعتبر أن لقاء الموسى مع الخضر يرمز لالتقاء الأديان السامية السماوية بحكمة البوذا الآسيوية العرفانية وعلمه اللدني.

الجميل في القصة أنها أيضا تجعلنا نفكر بعلاقة الإنسان بالمعاناة والسلطة وموقع الحكمة من هذا كله. فبعد التواصل الحميم مع المعاناة رفض البوذا العودة إلى القصر. ومن لم يعرف المعاناة عاش في عالم منفصل عن الآخرين. وهذا لب الوطنية، لب المحبة، ولب الإنسانية. أن نشعر بمعاناة الآخر. وهنا البوذا هو المثقف الهارب من السلطة إلى معاناة الناس. ويذكرنا هذا بقصة موسى الذي هرب أيضا من قصر فرعون. ولكن الجميل أيضا في رمزية قصة فرعون وموسى أن موسى عاد لفرعون الذي طغى ليقول له قولا لينا لعله يذكر أويخشى. وهنا موسى هو المثقف السلمي في وجه السلطة. وفي المقابل يمثل المسيح المثقف في وجه التراث وسلطة الآباء، ويمثل محمد المثقف الذي يصل للسلطة بشرعية الناس ومعاناتهم، في حلقة تتكامل فيها هذه الأديان وتجعلنا دائما نفكر ونتساءل عن مواقعنا من السلطة ومعاناة الناس. ولاحظوا كيف أن أحد منهم لم يغتصب السلطة. فهو إما اجتنبها أو وصل إليها بارداة الناس، كما نراه في مثال محمد والذي يمثل دور المثقف الذي وقف سلميا في وجه مجتمعه وحقق الدولة الشرعية برضاء الناس، ومات بدون أن يترك وريثا. هذه كلها محاولات اجتهاد عبر التاريخ للوصول إلى الحكمة مع المعاناة في الحياة، والخروج منها، وإيجاد علاقة سليمة مع السلطة. ما أشار له البوذا عندما تحدث عن الاستيقاظ هو اليقظة التي تتفاعل مع الواقع والحاضر بدون فلترات أيدولوجية. ولهذا يحذرنا القرآن من الحياة على الأرض بينما حواسنا منغلقة عن الآيات والإشارات التي نمر عليها. لهم أعين لا يبصرون بها، لهم آذان لا يسمعون بها، لهم قلوب لا يعقلون بها. هناك إشارات وعلامات على طريق التاريخ البشري لا يمكننا أن نتغافل عنها، ولذلك أيضا نقرأ في القرآن. سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم.

ولهذا فالديمقراطية هي الدين الجديد الذي ولو جاء بدون نبي معين واحد، فإنها الشجرة التي تغذت جذورها من كل ثقافات العالم وإرثهم الروحي. وهي الطريق الذي كان يعبدّه كل هؤلاء الأنبياء والمصلحين والآمرين بالقسط خلال رحلة البشرية للخروج من الشقاء الذي نسببه لبعض بظلم في ظلمات لا داعي لها. هي ليس المؤسسات الدينية التي تزاوجت مع الطاغوت، وإنما كل الأفكار النقية التي جاء بها هؤلاء المثقفون اليساريون عبر التاريخ، هؤلاء الذين نسميهم أنبياء ولكن ما ميزهم حقا هو أنهم كانوا يقفون دائما مع كل المستضعفين. لقد مشينا كثيرا مثل البوذا، ورأينا المعاناة في حارات كثيرة وقارات كبيرة حتى بدأ البعض يستيقظ ويكوّن مجتمعا يحرر الناس من سلطة الفرد حتى لا يعود الناس رهينة لرحمة وأهواء شخص أوحد. إن التحرر من أهواء نفس واحدة يحدث بخلق مؤسسات مدنية تضمن للجميع المشاركة المتساوية والإنسانية والرحمة.

في النهاية اكتشف البوذا أن سر الحياة هو الخدمة والعطاء. وأن أعظم سعادة يحققها الإنسان هو ليس عندما يخدمه الآخرون، بل عندما يخدم هو الآخرين. ليس عندما يحبه الآخرون، بدل عندما يحب هو الآخرين، ليس عندما يقود الآخرين، بل عندما يفتح نفسه لتجارب الآخرين ومعارفهم. قال لأتباعه، لا تصدقوا ما أقول. لا تأخذوا عني شيئا بدون أن تجربوه. انظروا داخل أنفسكم، وخذوا كل ما أقوله للتجربة الشخصية والعملية. أي لا تكونوا تبعا لي. ولكن تحرروا وافتحوا عيونكم وعقولكم على المنهج التجريبي. فقط استيقظوا!

وبعد أن كنا متأكدين ومستعدين أن نقتل غاليلو على أفكاره الفلكية، اكتشفنا أن أوضح شيء في العالم لم نعرف حقيقته. اكتشفنا أن الشمس لا تدور حولنا، بل نحن الذين ندور حول الشمس. ويكتشف الحكام (ولو أن بعضهم لم يستيقظ بعد) أن الشعوب لا تدور حول السلطة، وإنما السلطة هي التي تدور في مدار الشعب. وأن الشعوب هي الشمس المشرقة التي تدور فيها كواكب الخدمة والمؤسسات في وهج إشعاع الإنسانية.

لقد استيقظ البوذا في قلوب الناس في المنطقة العربية. وربما بهذا الكلام أثبت أني أجلب أجندات خارجية من أقصى آسيا إلى طاولة ثقافاتنا العريقة في المنطقة. ولكن مثل موسى الذي ذهب مع الفتى لمجمع البحرين لمقابلة إنسان حكيم، أنا أيضا أذهب مع فتيان الأمة العربية لمجمع الإنسانيين كلهم، لنقابل كل أنواع الحكمة في أصقاع الأرض. لم نعد نخاف من شيء إلا من انتهاك إنسانية الآخر. إننا نتحرر من الأحقاد والمخاوف والظلم في الظلمات، ونفتح عيوننا على ثقافات العالم وصفحاتها الرائعة من الحكمة، لتتلاحم تجارب الأمم في حلها لمشكلة الشقاء والمعاناة والاستبداد السياسي. وهكذا تصبح حلولنا مجتمعة ومنتقاة بحسب نفعها للناس رحلة كلية نحو الرحمة والعدالة والسلام. سنعود لتحقيق الأمة الوسط. لن نقبل بأن نتسلط على أحد ولن نقبل بأن يتسلط علينا أحد. سنكون الأخ الوسط بين كل إخوة الإنسانية، نجلس تحت كل شجرة ونجمة، نسمع ونفتح قلوبنا وعقولنا تجاه الآخر، ونشعر بمعاناة كل الناس على هذا الكوكب الرائع، في حراك لإنهاء شقاء كل المستضعفين في الأرض.