يتذكر التكارتة (أهل مدينة تكريت) ان شاطئ (القب) ويلفظ بالجيم المصرية الواسع والطويل على نهر دجلة والذي جعله الله بالمصادفة برا من الحصى المتنوع، بجميع الاحجام والاوزان والألوان والاشكال، على امتداد اكثر من كيلومتر، يزدحم كل صيف بالمتفرجين المشجعين، رجالا ونساء، صغاراً وكباراً، وهم يشاهدون حروب (داحس وغبراء) تكريتية بين جيشين من الأولاد الغزاة المسلحين بأنواع وأحجام والوان مختلفة من (المقلاع) المحجال الذي توضع في (طاسته) حصاة واحدة او اكثر منقاة بعناية وبخبرة فائقتين، يُفضل منها الذي ما إن يسقط على الهدف حتى يتكسر ويصبح مئات من الشظايا المتناثرة التي تصيب laquo;العدوraquo; في اكثر من جزء من جسده. والمقاتل الماهر هو الذي يجعل قنابله (الحصوية) تسقط في المكان المحدد لها أمام العدو أو خلفه او الى جانبه. وكان المقاتلون (الأشاوس) يُعدون مقاليعهم بعناية وفن قبل وقت كافٍ من بدء القتال. وكان البعض منهم، وخاصة قادة الجيشين، يفاخرون بمتانة المقلاع وبطوله وضخامة (طاسته) التي تحمل ما يعجز الآخرون على حشره فيها.

الجيش الأول هو جيش أبناء قرية العوجا، والجيش المقابل هو الجيش الذي تآلف فيه التكارتة من أبناء الشيايشة وألبو خشمان والحديثيين.
ولم تكن المواجهات بين هذين الجيشين مقتصرة فقط على الأولاد، بل إن الآباء والأمهات والاخوة الكبار كانوا يتجمعون، غالبا، في مناطق آمنة ولكن مشرفة على ساحة القتال، وينخرطون في العصبيات المريرة التي تتطور أحيانا لتصبح اشتباكات دامية بالأيدي والارجل، وأحيانا أخرى بالسكاكين وبالمكاوير (عصي في رؤوسها كتل من القار الصلب)، تحزبا لهذا الجيش او لذاك. ولا أحد كان يعرف سر تلك الحروب وأهدافها ودوافعها. وعادة ما كان يقود الجيشين أصلبُ المقاتلين وأشدهم قسوة وأكثرهم عنادا واندفاعا ودهاء، وحماقة أيضا.

كان جيش أهل العوجا يتمترس شمال شاطئ دجلة، من ناحية حي الحارة (الساخنة) لحماية ظهره بمنازل الأهل والاقارب المطلة على شاطئ دجلة من أعلى جبل جعله الله وكأن أحدا قطع سفحه بسكين، في حين يتموضع الجيش المقابل في الفسحة الواقعة ناحية جهة (القلعة) التي يسكنها التكارتة، والتي لا يجرؤ أحد من أهل العوجا على السكن فيها، كرها أو خوفا من الغربة القاتلة. وكثيرا ما كانت تسبق مواجهات النهار مؤامراتٌ واستحكامات وتحالفات سرية تجري تحت جنح الظلام، استعدادا لكسر العدو، وايقاع الهزيمة الحاسمة به، وإخراجه من ساحة المعركة أياما وأسابيع.

في عام 1953 على ما أذكر آلت قيادة جيش التكارتة الى خالد فارس، وهو أحد ابناء زعماء ألبو خشمان، فيما آلت قيادة جيش أهل العوجا الى صدام حسين، يساعده واحد من أبناء عمومته، هو هزاع فيزي الهزاع الذي محا صدام، وهو رئيس جمهورية، أسرة عمه عمر الهزاع عن بكرة أبيها لأنه تجرأ فسخر من صدام وأسرته واتهمه واتهمها بالسرقة والسفاهة والدونية والغدر.

لجأ قائد التكارتة الى الخديعة. فقد اختبأ خلف خطوط العدو، مبكرا ومن الليلة السابقة، فوزع عددا من أفضل مقاتليه على خرائب منتشرة في حي الحارة نفسه، ومطلة من أعلى الجبل على ساحة المعركة، بعدما أخذوا معهم ما يحتاجون اليه من أكل وشرب.

وحين ابتدأ النزال في اليوم التالي شاهد (القائد) صدام حسين جيش عدوه قليل العدد والعدة، ومُبعثر الصفوف وقد غاب عنه أفضل مقاتليه الأشاوس، فطمع، وظن أن الحظ قد ابتسم له اخيرا وأصبح في إمكانه أن يُنزل بجيش عدوه ضربته القاضية.

لكن مساعده (الأعقل) والأكثر واقعية، هزاع فيزي الهزاع، شك في الأمر وتوقع أن تكون في الأمر خدعة، وحذر (رئيسه) من الإنجرار الى الوهم، ونصحه بعدم تجاوز الخط الأحمر المتمثل في سور حديقة مقهى حسن الفرحان الذي كان من يتجاوزه إنما يدخل عش الدبابير ويُعد مارقا يستحق العقاب لا على أيدي الأولاد وحسب بل الآباء كذلك. لكن (القائد) صدام ركبته حماقته، وغلبته اأطماعه وأوهامه، فلم ينتصح، وسخر من مساعده واعتبر نصائحه نوعا من الجبن وعدم النضوج، فاندفع وراء عدوه فدحره بسهولة وتابعه بحماس، لكنه لم يكد يصل الى (الخط الأحمر)، وهو سور حديقة مقهى العم حسن الفرحان، حتى حدث ما لم يكن يخطر على بال. فقد هبط على جيشه من الخلف جيش آخر من اشد المقاتلين واعتاهم واكثرهم اندفاعا وبسالة. في تلك اللحظة ذاتها استدار جيش التكارتة، وقد تراجع عن خبث وتكتيك، وهجم على جيش العوجة ليشكل الفك الآخر من الكماشة التي أحاطت بجيش (القائد) صدام من خلفه ومن أمامه، فتُـنزل به هزيمة مدوية ظلت مقاهي تكريت ومنازلهم تتحدث عنها أسابيع، تقرر على أثرها خلع (القائد المهزوم)، وتنصيب مساعده هزاع فيزي الهزاع قائدا جديدا لجيش أهل العوجة الجديد.

ولسبب مماثل وأسباب أخرى فقد (القائد الضرورة) مقاليد القيادة والسلطة، بعد معركة (القب) هذه بنصف قرن، وفقد أهله وعشيرته وحياته أيضا، لنفس السبب ونفس الإندفاع في التقديرات والحسابات الخاطئة، مع الأسف الشديد.