كلمة صفوة،هي خيار الشيء وخلاصتهُ وما صفا فيه.والصفاء هو مصدر الشيء وصفوة القدر. والصفاء لا غث فيه ولا كدر. ويقول القرآن الكريم:quot;فأذكروا اسم الله عليها صوافي،الحج 36quot; اي خالصة لله تعالى. ويُقصد بالصوافي الاملاك او الارض التي جلا عنها أهلُها أو ماتوا ولا وارث لها. والاصطفاء والاختيار هو للأنبياء والمختارين. يقول الحق: quot; ان الله أصطفى آدم ونوحا وآل أبراهيم وآل عمران على العالمينquot;آل عمران 33quot; اي اختارهم من بين البشر لقيادة الناس بالصفاء والاخاء.

وقيل في الصفوة هم جماعة الحل والعَقد، وهم العلماء ووجوه الناس، وأهل الرأي والتدبيروآلوا المكانة فيهم.والرأي عندي ان اهل الحل والعَقد هم الممثلون الحقيقيون للامة سواءً كانوا من أهل العلم أو السياسة أو الأدارة أو المال. ولهم حق اختيار قيادة الدولة في الاسلام لانتخابهم لشروط حددتها الشريعة الاسلامية،ويقف على رأسها الاعتدال والثوابت القيمية المعروفة مثل الامانة والحيادية في القول والعمل،لذا يجب ان يكونوا من الصادقين العدول بشهادة الناس. ومن يخالف تسقط ولايته في حكم الناس.

وفي الاسلام ان النبي محمد(ص)وأهل بيته والانبياء والاوصياء الكرام هم من الصفوة المختارة من أبناء آدم،أختارها الله للبشرية لادراكه سبحانه وتعالى في اهميتها الانسانية لنشر العدل في الارض،بعد ان نزهها عن الخطأ وابعد عنها الرجس،يقول الحق: ( يا نساء النبي لستن كأحدٍ من النساء..........وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى...........انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا،الاحزاب 33).لكن الفقهاء بعد القرن الثالث الهجري قد ألغوا ثبات النص في استبعاد حق الامة في الاعتراض وأنتخاب الأفضل،بعد ان اصبحت جماعة الحل والعقد تنتخب بشكل عائم وغامض لتحقيق مصلحة الخليفة او السلطان. وبعد ان اصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي حين ظهر خط الأرجاء وعلماء الجبر والقدرية الذي أفرز الكتلة الساكتة في الاسلام. لذا بعد انصرام العهد النبوي والراشدي تغير الحال فأصبح اختيارهم يجري عادة بطريقة مبهة وغامضة. من هنا بدأ الانحراف في معنى الصفوة واختيارها وقيادتها للامة.وخاصة بعد ظهور الفِرَق الاسلامية المتعددة الاجتهادات، والتي اصبح لكل فرقة مؤيديها من المختلفين مع الاخرين (سبعون فرقة في النار والناجية واحدة فقط).انه تخريف لا يقبله العقل والمنطق،ومع هذا فالناس يصدقون لسيادة الجهل عندهم.، وهذا ما نعاني منه الان.

لكن الذي نريد الكتابة فيه هو كيف ان الوعي الحضاري يعتبر تمهيدا لحركة التاريخ في خلق الصفوة المختارة،والصفوة المختارة لحكم الدولة ملزمة شرعا وقانونا بتطبيق عدالة الحكم وحقوق الناس،ومسئوليتها واجبة شرعا امام المحكومين وليس من حقها التصرف بشئون الحكم دون رضاهم. ولقد أوصى دستور المدينة بفقرته التاسعة بوجوب تحديد سلطة الدولة عن حقوق الناس أنظر(الوثائق النبوية). ولو سارت القيادة الاسلامية على مفهوم الصفوة في الاسلام لما أنتكست الدولة وضعفت وسقطت فيما بعد، لان التقدم الحضاري للدولة أرتد الى الوراء نتيجة التخلي عن مفاهيم الحق والعدل والمساواة، وهي المرتكزات الاساسية في القرآن الكريم،بعد ان اعتقدوا ان القوة والمال هما الوسيلة لاستمرار الدولة، نظرية سادت في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان(رض) حين بدأ الخط الأموي بالظهور،لا للكفاءة والمقدرة والعدل فيمن يُختار سواء لجماعة الحل والعقد او لحكم الدولة،بل للقرابة والعشيرة وهنا كان الخطأ المميت. لذا قابلتها ( نظرية الملوك حكام على الناس والعلماء الاتقياء حكام على الملوك)،اي من حق العلماء الاتقياء محاسبة الصفوة المختارة اذا زاغت عن موازين الحق والعدل،فلا أعتداء على حرمة الدم والمالوالكرامة،فلا يهمنا ما تقول الصفوة،ولكن يهمنا ما تفعل من اجل الناس،( أنظرالمذهب السياسي في الاسلام).

وهذه هي الاشكالية التي وقعت فيها الامبراطوريات الكبرى في التاريخ كاليونانية والرومانية والمصرية والعراقية والفارسية القديمة على حد سواء،عندما اصبحت نظرية القوة هي المقياس في توارث الحكم،واليوم تتكرر في بلدان العرب التي ولدت ربيع الثورات العربية نتيجة احتكار السلطة وأغتصاب حقوق الناس. رغم ان اليونان والرومان كانت لديهم مجالس نيابية منتخبة،تراقب الامبراطور،لكنها كانت شكلية،فالقانون الروماني كان يخدم الامبراطور دون عامة الناس. وما درت تلك القيادات السياسية لتلك الامبراطوريات العظيمة ان الاطار السياسي للحكم السليم يكمن في العدالة الاجتماعية ومشاركة الناس في حكم الدولة وهي بعيدة عنه.

دولة الاسلام لم تكن دولة دينية،بل كانت دولة مدنية منذ البداية ودستور المدينة كتب منذ السنة الخامسة للهجرة ndash;لازال مغيباً- وأمة الأسلام كانت لازالت في بداية النشأة،لكن وعاظ السلاطين هم الذين خربوا دولة الاسلام وحقوق مواطنيها رغبة في ارضاء الحاكمين.،الدين فيها يراقب الدولة خشية أنحرافها عن خط الاستقامة ولا يحكم،والاسلام قد فطن اليها منذ التأسيس حين قال:أفراد الامة متكافلون فيما بينهم (لاحظ دستور المدينة)، وهو ضمان كل تقدم وبدونه لا يمكن أضطراد مسيرة الحضارة ابدا. لوان المسلمين التزموا بما جاءت به شريعتهم لما انتكسوا وضعفوا فكان سقوطهم حتميا مثلما حل بالأمبرطوريات من قبلهم. لذا فالصفوة المختارة ووعيها وقيادتها الحكيمة الكفوءة شرط نجاح الدولة واستمرارها،بغض النظر عن التسمية ملكاً كان ام خليفة ام رئيس جمهورية.

والصفوة بالمعيار المعنوي،ليس لها تفضيلا لاحد على اخر، وأنما معناه ان لكل جماعة انسانية واعية متقدمة صفوتها المختارة، التي تقود وتوجه وتبتكر وتبني وتنظر الى الامام وتحسب حساب الحاضر والمستقبل،فالوطن والشعب أمانة بأيديها، لذا لابد من ان تكون لها مقدرة القيادة والريادة والأمانة في حكم الدولة.وهذا الشرط هو الذي اكد عليه الرسول(ص) في دستور المدينة الرائع فقرة (6)(خيار الامة في قيادتها). وطبقه حين امر بتكوين قيادات الفتح داخل شبه جزيرة العرب(انظر الواقدي في المغازي)،واشار اليه عمر(رض) في رسالة القضاء عندما وضع شرط الكفاءة لمن يحكم بين الناس في الولايات، لان عمر أول من فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية (أنظر تنظيمات عمر في رسالة القضاء،دائرة المعارف الاسلامية).،وطبقه الامام علي(ع) عندما رفض طلب عقيل بن ابي طالب في وظيفة متقدمة بحجة عدم اهليته لتلك الوظيفة،حين قال له:هذه ولاية وأنت لست أهلا لها يا عقيل(انظر السيوطي في تاريخ الخلفاء ص204).لكن الخلل اصاب الدولة بعد عهد الراشدين ولا زال الى اليوم.

وفي ظروف التقدم الحضاري والتنافس الداخلي على المنصب والوظيفة والمهمة، تكون الصفوة مهمتها صعبة وقيادتها معقدة وشائكة لان عليها تعتمد الدولة، وبها تتقدم او تتأخر.،لذا وضع الاسلام شروطا لها من اهمها الشعور بالمسئولية الضميرية امام الله والوطن والألتزام بالميثاق (وافوا بعهد الله اذا عاهدتم ولا تنقضوا الآيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا،النحل 91).فالقسم القرآني والمحافظة عليه وتطبيقه شرط من شروط الولاية في الاسلام، ومن يتقدم لشغل وظيفة هامة يجب ان يكون كفؤا لها ومن الذين يزكيهم القوم حتى لا يخل بشرط الوظيفة،لا بالتوافقات المصلحية المرفوضة، لان العمل في الاسلام هو التكليف وليس التشريف،كي لا تزيغ شخصية المٌختار او تنحرف عن خط الاستقامة وتصبح مصدرا للاذى والضرر والتأخر والفساد، وفي حالة الانحراف على الامة وهي مخولة ان تطلب من الصفوة او من بعضها ممن لا ترى فيه الامانة والاخلاص،ان تطلب منه او منها:

- التنحي او الاستقالة او الازاحة عن المهمة أو الوظيفة بموجب الحق الشرعي في حالة الفشل في ادارة الجماعة،فأن لم يقبل فالقوة في أزاحته جائزة شرعاً وقانوناً.. وثورة شباب العرب تونس ومصر ودول عربية اخرى اليوم مثالاً.

- ومن ثم اختيار صفوة جديدة لادارة الدولة والامة لديها القدرالكافي من الوعي والادارة والقوة لانجاز ما يوكل اليها من مهام. بغض النظر عن العلاقة او القرابة او الحزب، وهذا هو الضمان الاكيد لنزاهة المؤسسة الحكومية في ادارة الدولة. فوضعت الخطوط الحمراء على التجاوزات والتدخل لصالح من يتهم بالخروج على قوانين الدولة ضمانا للعدالة المطلقة في القضايا العامة (اذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل).وضمن قانون الدولة والمحاسبة على كل خطأ يرتكب او مال يسرق او ارض تسلب من الدولة او الافراد، يقول الامام علي (ع) : كل مال اعطاه الخليفة من مال الله فهو مردود في بيت المال فأن الحق القديم لا يبطله شيء والعقل مضطر لقبول الحق. من هنا أبطلت نظرية منا أمير ومنكم أمير، ان نظرية التوافق في حكم الدولة هي نظرية فاسدة لا يقرها الاسلام لتوفر شرط الترضية الشخصية فيها على حساب الامة. ولم يٌخترق هذا الشرط الا حينما حلت الطائفية والعنصرية والعصبية القبلية في حكم الدولة. أما ان الحاكم وحاشيته لا يعيرون لكلام الناس من اهتمام فذاك شأنهم وعلى مجلس النواب المنتخب مسائلتهم عن كل حق مضاع.

ان الخطأ الذي ارتكبته ادارة الدولة الاسلامية منذ البداية اي منذ عهد الامويين والعباسيين حين بدأت بتقنيين القوانين لصالح السلطة، فأصيبت الصفوة بالخلل والشلل، من هنا فالصفوة المختارة لادارة شئون الدولة بحاجة ماسة الى دراسة وتنظيم،وان لا تترك سلطة الصفوة الممثلة باهل الحل والعقد (الرئاسات الثلاث) عندنا اليوم دون كفاءة او تحديد مدة او مدى سلطان، رغم اعتمادهم على الشورى التي تحولت عندهم مع الاسف الى سلطة بيد رئيس الدولة يتصرف بها دون قيد او شرط، فظل كل شيء عائم وغامض وغير مضبوط. لذا بقي الفكر السياسي في الاسلام مشوشاً لا وضوح فيه فتداخلته الاهواء من كل جانب حتى افسدته وقضت عليه وحولته الى دكتاتوريا ت فردية او عائلية كما عند الامويين والعباسيين ومن خلفهم من فوضوي السلطة فيما بعد. واليوم تكر السبحة عندنا عندما تصبح الصفوة تحكم دون قانون واضح في اختيارها اللهم الا التوافقات التي رفضها الاسلام منذ البداية،تلك مخالفة قانونية يجب محاسبة مرتكبيها.

لم يكن هذا مقتصرا عليهم فقط لكنه اصبح بمرور الزمن وتهاون الأمة ارثنا الذي لا ينافس، فالدول العربية بعد حركات الاستقلال بعد أنتهاء الحرب العالمية الاولى 1918،استبعدت كل التشريعات التي فرضتها العقيدة الاسلامية وحل محلها التشريع الغربي ndash;وياليت طبق- ولكن بلا دراسة او تنظيم،فتركت السلطة للاقوى ولمن يؤيد السلطان دون قيد او شرط. فتولد لدينا من جديد ارث الامويين والعباسيين،لا بل اشد وانكى،حتى اصبح الخطأ مجسدا فينا لا احد يستطيع رده. ولا زال هذه الخطأ يتجذر في حكم الناس في وطننا العربي رغم كل محاولات التغيير السياسي الذي ابتلى بها الشعب العربي دون نتيجة تذكر.،فظلت فوضى السلطة هي الباقية معتمدة على العشائرية والطائفية والعنصرية التي حرمها الاسلام بأيات حدية لا تقبل النقاش (وأمرهم شورى بينهم).،انها سابقة ما كان يجب ان يقدم عليها المُغييرون عندنا في العراق اليوم و بأي حال من الاحوال وهم يُعدون من حماة الدين وكتبة دستور.و التي اخلت بهم وبنظمهم معاً.فالدستور كتب وفيه الهفوات الكثيرة التي تعرقل مسيرة التغييروخاصة في اختيار رئيس السلطة التنفيذية واختيار نواب الامة بالمحاصصة التعويضية التي جاءت بالأمعات واصحاب الشهادات المزورة لتمثيل الشعب وأمتيازاتهم التي فاقت كل تصور وخرجت عن الحق المآلوف في التمثيل الوطني،وخلقت الطبقة فائقة الثراء التي لا تنظر الا لمصلحتها دون الامة.واذا كان الوقت لا يسمح بادخال الاصلاحات الدستورية في اول الامر،فاليوم اصبح واجبا عليهم الاصلاح والمهمة تقع بالدرجة الاولى على عاتق مجلس النواب المنتخب ولكن كيف تنجز المهمة ونصفه بين هارب وغائب ومتمرد على الحضور دون محاسبة تذكر ؟

لم تكن هذه الصفوة التي نتكلم عنها اليوم، هي من ابتكار المسلمين كما يدعي البعض،وانما كانت ابتكارا يونانيا قديما نسب الى اهل العلم والدراية الذين كانوا بنظر الناس من اصلحهم لقيادة الجماعة في الدولة، وانتقلت للاوربيين والاشتراكيين فيما بعد لحماية الدولة والشعب من الفاسدين والمفسدين. والهدف الاساس من الصفوة هو هدف مشترك بين حالتين صحيتين في قيادة الدولة،اولهما يجب ان لا تتمتع الصفوة المختارة بالميزة المادية والمعنوية على غيرها الا بما يقتضيه ظروف الحال،وهذا عكس ما يطبق عندنا اليوم حين أستأثرت الصفوة الحاكمة بالمال والأمتيازات فأفسدت توجهاتها وعتمت على مشاريع الوطن الخدمية والانتاجية لتحوله الى دولة رواتب وامتيازات ومنافع اجتماعية حتى اصبحت قصورهم وممتلكاتهم الخاصة خارج الوطن تزكم الأنوف من رائحتها العفنة،يقول الامام علي(ع) : (السلطة والمال تفسد اخلاق الرجال).،والثاني لها القدرة والقابلية على ادارة شئون الدولة بكفاءة وهي ليست بكفوءة في حكم الدولة،وثالثهما اللياقة الصحية وشرط القدرة وهذا مفقود عندنا اليوم والحالة الصحية شرط ملزم في الولاية الاسلامية. وهذه هي التي غفلها العرب وقيادات الدولة الحديثة في العالم الثالث حين عدو الرياسة تشريفا لهم لا تكليف فتمسكوا فيها دون حوار أو رأي أخر.

ان الصفوة الواعية المخلصة تعطي دائما جرعة التقدم والامان لمواطنيها لانها في مسئولية الدولة لا تقبل ولا ترضى عن اي انحراف، فهي مكلفة بتطبيق المصطلحات الثلاث في الاسلام وهي:الحق والعدل والاستقامة، لذا اذا ما سارت على طريق الهدى تبقى ثابتة لاجيال طويلة وان تغيرت الاشخاص او الوجوه،لأن أنتهاء نظام النبوة والرسالة هوالأيذان بأن الأنسانية قد بلغت سن الرُشد،ومرحلة تحمل الأعباء. واذا ما نكثت تغير الأمر نحو السقوط،لان الكون وحركته التاريخية في حركة متصلة فمن توقف تخلف ومن سار وصل.هذه النظرية الأسلامية تدحض نظرية ابن خلدون بأن الدولة تعيش بثلاث مراحل،وهي :جيل البداوة والخشونة،والثاني جيل الانتقال من البداوة الى الحضارة،والثالث هو جيل الترف وفقدان الحمية والتدهور والسقوط والتي سماها بأدوار الشرف،والشرف عنده هو وصول الامة الى اعلى درجات القوةوالسلطان السياسي. ولم يدرك ابن خلدون ان الترف ليس مرحلة من مراحل تطور الافراد والجماعات أو غنى وفقر،أنماهو موقف من الحياة يتحول بمرور الزمن الى سلوك.

لقد كتب المؤرخ الكبير آرنولد توينبي عن الصحوة وان لم يأتِ بجديد لكنه اكد على اهمية وجودها في المجتمع لادارة ومراقبة حالة المجتمع خوفاً من التدهور.لان في وحدتها وصلاحها التقدم وفي تصدعها وفسادها التخلف والسقوط.

ان المشكلة التي نعاني منها في الوطن العربي وعراقنا الحبيب اليوم هي ان الصفوة المختارة التي تمتعت بروح المسئولية والابتكار فد انتهت،لتحل محلها صفوة التقليديين الذين يقتصر همهم على المحاكاة،والمحافظة على الموروث والمصلحة الخاصة،ومن جياع الأمة التي ترى في السلطة ذهبا وجاهاً.بعد ان غابت عنهم رقابة الالتزام الديني حين اصبحت المرجعية الدينية كتلة ساكتة في الوطن العراقي تلبي حاجات الحاكم وغابت عن وجوه الناس لكونها غريبة عنه ولا يهمها مستقبله لانها تمثل الاخرين.فكان لا محيص لها الا الضعف والانحلال كما نراه اليوم في صفواتنا المختارة التي لاهم لها الا نفسها ومن حولها دون الناس. ولو ملكت الدنيا ذهباً لن تشبع،هنا يشكل العامل التاريخي احد عوامل القوة والضعف في تكوين سلوك الشخصية الفردية في التعامل مع الحدث.،لأن عقدة مركب النقص فيها ثابتة لا تتغيير في الموروث. وخاصة اذا كانت الصفوة ممن يتشبثون بالاستمتاع بالمراكز اوالمكانة الاجتماعية،متناسين ما أوكلَ اليهم من امور جسام. فيفسد المستوى الخلقي ويصبح ضررها اكبر من نفعها للوطن وعلى نفسها حين تحاصرها الاحداث،فلا بد من تغييرها واحيانا هي تموت قبل ان تزاح او تقتل،ولنا شواهد التاريخ في يزيد الاول الاموي والمستعصم العباسي الذي سقطت الدولة وهو لا يدري بنفسه انه كان هو خليفة على المسلمين ام لا. هؤلاء يجنون على انفسهم واولادهم اكثر مما يربحون،ولنا في ابن علي وحسني مبارك وعلي صالح ومن هم على الطريق امثلة حية اليوم.

ان اصحاب القدرة على القيادة السياسية والاخلاص للدولة الذين لا تهمهم مصالحهم الخاصة قلة في التاريخ البشري،ويقف الامام علي(ع) والخليفة عمر بن الخطاب(رض) في المقدمة.،فمن يقرأ نهج البلاغة ورسالة القضاء يدرك انهما كانا يمثلان الصفوة المختارة التي كان بمقدورهما ان يقودا دولة ويبنيان مجتمع يسوده العدل والقانون في دولة الاسلام لو وجدا في مجتمع يفهم قصدهما،.ففشلهما وقتلهما كان سببا مجتمعيا لاشخصياً. وبأستشهادهما ضاع خط القوة العادلة في الأسلام. وحل بدله خط الضعف،لكنهما تركا بصمات في المعارضة للحاكم الفاسد لا تنسى.يقول الامام على:ان صوتاً واحدا شجاعاً أكثرية، فلا تسكتوا ايها القوم على باطل؟ ويقول الخليفة عمربن الخطاب :كيف أستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

ان الذين يدعون الى فصل الدين الاسلامي عن السياسة فهم واهمون،فالاسلام اصلا دولة مدنية دستورية وتشريعاته لها صفة المراقبة على التنفيذ حتى لا تستغل الدولة من قبل الحاكم، فدستور المدينة واضح في هذا الباب. فصل الدين عن الدول ممكن في الديانه اليهودية لتناقض مكتشفات العلم مع التفسير التوراتي للكون، ولجمود شريعة موسى التي لم تأتِ الا بتسع آيات بينات حين طرحت التوراة والانجيل قوانين الكون طرحا مرحلياً،والديانة المسيحية لم تأتِ الا بثلاث آيات بينات وهي ديانة لم تلبِ حاجة التطور، لذا فالدين فيهما مرحليا وفصله عن الدولة كان ملائماً لمصلحة تطور الدولة المسيحية.اما الدين الاسلامي فهو دين حنيفي متطور نصه ثابت ومحتواه متحرك ينسجم مع الفطرة الانسانية ويعتمد على التشريع الانساني ضمن حدود الله وعلى البينات المادية واجماع اكثرية الناس على التشريع،وآياته التي تزيد على الستة آلاف آية كلها بينات،(يونس 15) لذا فهو يصلح لكل زمان ومكان وهو يخضع لكل جديد في حركة التغيير التاريخي كما نلاحظ الآن في آيات الاماء والعبيد وما ملكت أيمانهم حين أصبحت في حكم المنتهية.

ان اهم ما ادركه العلماء والمصلحون أستناداً الى آيات التفضيل كما يقول القرآن ( وفضلنا بعضكم على بعض...)، ان الناس اذا كانوا سواسية امام القانون فهم ليسوا سواسية في المواهب والقدرات الشخصية والبدنية،لذا فالمساواة بين الحقوق والواجبات بموجب هذه النظرية هي خرافة، لان الحق هو ان كل انسان لابد ان ينال من الحقوق بقدر ما يقوم به من واجبات،وتلك نظرية لم تفطن اليها الامبراطوريات الكبرى من قبل ولو تحققت لما بقي عاطلا ولا متكاسلا ولا متباغضا او متحاسدا،أنه علاج اجتماعي لا يُخترق ابد.والمسلمون هم الذين بدأوا فيه بموجب دستور المدينة الذي وضعه الرسول الكريم في السنة الخامسة للهجرة. وهذه النظرية نحن الذين أخترقناها اليوم في دولة القرابة والعشيرة والمذهب والعصبية القبلية وكنز المال الذي لا ينفع. والتي يروج لهام فقهاء الدين والمحسوبين عليهم ممن يدعون العلم وهم والعلم على طرفي نقيض،وصدق رسول الله حين قال:( ان أشر أمتي العلماء أذا فسدوا).

من هنا فالامتيازات، اصبحت حقا شرعيا لروؤساء الدولة وكبار موظفي الدولة لمهامهم الجسام التي يقدمونها بشرف وتضحية،وكفاءة وأمانة، لان واجباتهم تختلف عن الاخرين مسئولية وتنفيذا دون ان يضعوا في الحساب فترة بقائهم في المنصب ولكن بموجب قوانين الدولة العامة لا قوانين هم يخترعونها لانفسم كما في قوانين الرئاسات الثلاث في العراق الباطلة شرعا وقانونا.لان مجرد الاخلال بماهو مفروض عليهم يجعلهم يسرقون وينهبون ويخلون بشرط الوظيفة مستغلين فقدان محاسبتهم. هذا الخلل وقعت فيه الدولة العثمانية حين كانت تعين الولاة بفترة زمنية من ( 3-4 ) سنوات دون شروط مما جعل حكام الاقاليم لصوصاً وليسوا حكاما كما في تعيين بعض المحافظين في محافظات العراق اليوم،وهذا ما نراه يتكرر اليوم في عالمنا العربي والاسلامي لفقدان المعايير في اختيار الاشخاص في الوظائف الهامة وأن الحاكم المُخل بشرط الولاية لا يريد ترك السلطة خوفاً من المحاسبة والقانون ونبش دفاتر الخطأ غداً.كما في تصارع السلطة في عالمنا العربي اليوم.

بعد هذا المخاض التاريخي الذي مرَ به العراق ويمربه اليوم،لابد من اعداد فكري حضاري حتى يأخذ التغيير المنتظرمعناه ومكانته المنتظرة،في مجرى التاريخ العراقي الجديد،ليسود الوعي الحضاري بين العراقيين بعد ان أنتشر بينهم الجهل والخُرافة والسحر والامية والتقليد، وأبعدوه عن كل تقدم وتحضر،بحجة الدين والعادات والتقاليد البالية نتيجة التأثر بالاخرين.الصفوة هي القائدة التي يجب ان تكون واعية لتوجه وتبتكر وتبني وتنظر الى الامام وتحسب حساب الحاضر والمستقبل لعصر النهوض والتقدم الحقيقي لا الصوري،والزمن والحدث هو الذي يخلق الصفوة وشاطر من أتعظ. لن تكون الجماعة بخير الأ أذا كانت صفوتها المختارة تشعر بثقل التكليف وتتحمل أعباءه ومضانكه،وان تكون تحت مراقبة البرلمان المنتخب حقاً وحقيقة. يقول الامام الكاظم(ع) كن منصفا فاعلا لا خاملا،فالدنيا للفاعلين المخلصين،فاين أنتم من اهل البيت العظام.

ان صفوتنا الجديدة يجب ان تعتمدعلى العلم والكفاءة واخلاص المخلصين من ذوي الاحساس بالواجب الوطني والمتطلعين الى المجهول، وتحتفظ في قلوبها بالطموح والتطلع وروح الأبتكار والأختراع والمحافظة على الثوابت الوطنية لكل جديد نافع وتترك التصريحات الفارغة التي لا تغني ولا تشبع من جوع والتكتلات والتوافقات المصلحية لمجرد استمرارها في الحكم فهي هنا تضحك على الذقون،فأذا فقدت هذه الصفات وحلت محلها جماعة من التقليديين الذين يقتصر همهم على المحاكاة والمحافظة على الموروث والنفع الخاص وقتل المرأة،فقدت دورها القيادي في التقدم،فالأمة أوالدولة لا يمكن ان تكون بخيرالا اذا كانت صفوتها بخير. فمن اين يأتينا الخير وهذه هي صفوتنا اليوم.

لذا علينا ان لا نبقى نتهم كل قائد بالخيانة والمروق استنادا الى ما تتناقله الألسن وتسمعه الأذان، لمخالفته وجهة نظرنا في النظرية والتطبيق.نعم هم يتمتعون بالمرالكز الرفيعة ولكن في مقابل ذلك تعب دائم وكثيراً ما يدفعون حياتهم ثمناً لما يملأ نفوسهم من طموح. ولكن هذا لا يعني الأستئثار بحقوق الناس والمال العام كما في بعض الصفوات اليوم التي جاءت بفعل تحكم الظروف وهي لا تتمتع بشروط الصفوة لذا عليها ان تعمل قبل فوات الآوان على:

المحافظة على كرامة الشعب، وتحقيق الحقوق دون تمييز او تفريق. المحافظة على الثوابت الوطنية ولا يسمح لأحد بالتجاوز عليها، التمسك بشعار الحرية والفكر والتقدم، السعي الى تغيير المفاهيم المتوارثة في ميادين المعرفة،تحديد سلطات الدولة عن حقوق الناس،التمسك بالاحكام والنظريات النافعة من تجارب الامم، توفير الامان والاطمئنان والكفاية والعدل للمواطنين،وضع قواعد جديدة للتفكير الواقعي المنطقي المنظم،تحقيق نظرية تطبيق القانون دون انحياز في الحقوق والواجبات،تحويل المبادىء الى تشريعات،وضع المبادىء الرئيسة للفكر القائم على العقل موضع التطبيق، الاهتمام بنظرية الحكم الصالح،وكيف يتحقق.فهل ستطبقون؟. ساعتها ستنجحون،والا فالمحاسبة والقانون.

وليعلم الحاكمون اليوم نحن نرفض من يقر بوجود نظرية الصفوة الزائفة خير من أنعدامها على الأطلاق كما يروج لها بعض وعاظ السلاطين،لأن أنعدامها يعني الفوضى،حين قال بعضهم :ان الصفوة وان كانت فاسدة خير من الفوضى بلا صفوة. وهنا يكمن الخطر الرهيب من فقهاء الدين ومقلديهم من المترهلين،فليس أخطر على الدولة والجماعة من الفوضى في حالة وجود الصفوة الفاسدة،لأنها هي الفوضى بعينها سواءً كانت خلاقة او غير خلاقة فهي نظرية استعمارية بحتة.والفوضى هي نهاية كل حضارة بادت او تحجرت،وبشكل خاص الأمر ينطبق على الناحية السياسية التي يقودها رجال من الصفوة الفاسدة،هذه النظرية جاء بها أصحاب نظرية الفوضى الخلاقة التي جاءت بها كوندريزا رايس التي تسترت بها وتستروا بها رفاقها في تدمير الدولة والامة معاً.. وهنا لابد لنا من أن نقول ان موقف الصفوة الخيرة يقابلها التحدي ونوع ردها عليه وهو الشعب شرعا وقانونا، وهنا تكون نظرية التحدي والأستجابة الحضارية عاملاً مهما في تقدم الوطن.فهل ستعي صفوة العراق اليوم نظرية التحدي والاستجابة، ام تنتظر المصير، دعونا ننتظر لنرى بما هم فيه يحكمون.

والله يهدي الى كل رشاد.

د.عبد الجبار العبيدي

باحث أكاديمي
واشنطن ndash;الولايات المتحدة الامريكية
[email protected]