بداية لا بدّ من القول بأنّ المعارضة السورية ليست واحدة بل كثيرة. لذا يمكن اعتبار quot;المعارضة السوريةquot; مشروعاً لمعارضات مختلفة، متناحرة متناقضة، لم تتفق بعد تحت سقف واحد على مشروعٍ واحد للتغيير، سواء على مستوى الداخل أو الخارج. مؤتمر quot;الحوار والتشاورquot; الذي عقد مؤخراً بدعوة من الكاتب والناشط السوري لؤي حسين، في دمشق، والذي دعا فيه المؤتمرون إلى quot;سوريا للجميع في ظل دولة ديمقراطية مدنيةquot; واختتمت أعماله ببيانٍ سمي بquot;المعتدلquot; شخص الأزمة السورية في 10 نقاط، هذا المؤتمر رغم أن أعضاءه لم يطرحوا أنفسهم quot;كبديل لأي طيف أو أي تنظيم معارض ولا يضع نفسه في مواجهة قوى المعارضة الديمقراطيةquot; ودعوا كالمعارضات الأخرى إلى ضرورة quot;تنسيق المعارضة مع الحراك الشعبي في الشارع للتغيير الوطني الديمقراطي السلمي في سوريةquot;، كما جاء في البيان، إلا أن المؤتمر لم يلقَ استحساناً أو قبولاً كبيراً في الشارع السوري، خصوصاً الشارع المعارض، في الداخل والخارج على السواء. فالنظام الذي يقتل شعبه، بحسب البعض الأكثر من المعارضات السورية التي انتقدت هذا المؤتمر وأصحابه، لا يمكن الحوار أو التشاور معه، كما أُريد لهذا المؤتمر أن يكون. إذن سوريا الآن مع الأسد، وسوريا القادمة من دونه، لا تزال موضع اختلافٍ لا بل خلافٍ كبير، بين المعارضات السورية بمختلف تياراتها اليسارية والإسلامية والقومية العربية أو الكردية أو الكلدانية أو الآشورية. من الجميلٌ بالطبع، أن يتفق المعارضون السوريون على هذا الرفض الواحد، ولكن اللاجميل في هذا quot;الجميل المعارضquot;، هو أن أهل الرفض هؤلاء، لا يقدمون أية بدائل quot;وطنيةquot; حقيقية يمكن التعويل عليها لتحقيق أيّ تغيير من الداخل. صحيحٌ أن الشعب قام بالثورة وقال كلمته، ولكن السؤال الأساس هو: في تونس ومصر عوّل الشعب على الداخل، حيث الجيش الوطني، الذي اختار الإنحياز إلى الوطن والشعب ضد الديكتاتور، كان حاضراً في مشهد الثورة بقوة، ولكن جيش سوريا ليس بجيش تونس ولا بجيش مصر. مرور 112 يوماً على الثورة السورية التي غابت فيها quot;وطنيةquot; الجيش حتى الآن، وظهوره في المشهد في كونه quot;جيشاً مع النظامquot; بدلاً من أن يكون quot;جيشاً مع الشعبquot;، يؤكد أنّ الجيش السوري، هو جيشٌ من quot;طينة وطنيةquot; أخرى، ليس كطينة سائر الجيوش الوطنية في العالم. الجيش السوري، على مستوى كلّ قياداته وقطعاته، لا يزال على ما يبدو، جيشاً مؤمناً بquot;عقيدةquot; نظامه القائمة على حكم آل الأسد لسوريا، من المهد إلى اللحد. لنذهب مع المعارضات السورية في رفضها quot;الأزليquot; لquot;أي تدخل خارجي في شئون بلادهاquot;، ولكن هل لها أن تغيّر بنفسها داخل بلادها بالفعل، من داخلها وبداخلها؟ ولكن ما هو موقف المعارضات السورية من هذا التدخل؟ إذن التدخل في سوريا حاصلٌ(من تركيا وسواها من الدول في العالم)، الآن وبعده، رغم رفع كلّ المعارضات السورية في الداخل شعار اللاتدخل أو الرفض لأي تدخل من أي خارجٍ كان. فالصدور العارية للشعب السوري، كما تقول وقائع القتل الشنيع على الأرض، لن تستطيع إسقاط دبابات النظام وإرهاب شبيحته، من دون quot;تدخل خارجي رحيمquot;. فماذا سينفع شعار quot;رفض التدخل الخارجيquot; السوريين، طالما أنّ هذا النظام باقٍ أو مصرٌّ على البقاء، بدون هكذا تدخلٍ، حتى آخر سوري؟ المعارضة الليبية، كانت تعاني إبان ثورة الشعب الليبي، من ذات العقدة، ولكنها أدركت في النهاية أن لا خلاص من القذافي من دون التدخل الأجنبي. لم يكن بإمكان المعارضة الليبيبة، رغم انضمام المؤسسة العسكرية إليها، أن تحمي الشعب الليبي، وما كان لمجلسها الإنتقالي، بالطبع، أن يحصد كلّ هذه الشرعية على حساب القذافي، لولا دخول الغرب(أميركا وأوروبا) على الخط معهم ضد القذافي. من هنا على المعارضات السورية أن تركب البراغماتية وتتخلّص من عقدة quot;التدخل الخارجيquot;، لأن لا خلاص لسوريا وشعبها من quot;قذافي سورياquot; بدون دخول الآخر الأجنبي على الخط. السياسة مصالح، ومن مصلحة الشعب السوري، الآن، بالدرجة الأولى والأساس، أن يتخلص من هذا النظام، الذي يعدمه الآن، عن بكرة أبيه. فليسقط الديكتاتور ونظامه، الآن أولاً، بتدخل الخارج الأجنبي الرحيم، ضد الداخل quot;الوطنيquot; الرجيم، أما بعد السقوط فسيكون في حينه لكلّ حادث سياسي حديث، كما سيكون للسوريين، بكلّ تأكيد، في سوريا أخرى، كلاماً آخر، للعبور إلى مستقبلٍ آخر.
فالمسافة بين هذه المعارضات والنظام السوري، تختلف من مكانٍ إلى آخر، ومن فصيلٍ إلى آخر أو من شخصية إلى أخرى. فهذه المعارضات السورية بمجموعها، لا تزال مختلفة بين بعضها البعض، على طبيعة القادم من علاقتها مع النظام السوري. فبينها من تريد الطلاق البائن مع هذا النظام، وتريد مع شعب الثورة إسقاطه بكل مؤسساته من دون رجعة، فيما آخرون لا يزالون يؤمنون بإمكانية قيام سوريا quot;مدنية ديمقراطيةquot; في ظل هذا النظام نفسه. هذا فضلاً عن الإختلاف الآيديولوجي الكثير بين كلّ فصيلٍ وآخر، والإختلاف في الرؤية إلى قادم سوريا في مرحلة ما بعد الأسد. علماً أنّ هذا الإختلاف الذي تحوّل إلى خلافٍ بين هذه المعارضة وتلك، سواء هنا الخارج أو في الداخل هناك، قد بدأ يلقي بظلاله، منذ الآن، على بعض مؤتمرات هذا البعض من المعارضة في الخارج. فحضور الإخوان المسلمين المكثف في هذه المؤتمرات مثلاً، والذي كشف عن رغبة أخوانية حثيثة، في صبغ القادم من سوريا ما بعد الأسد، بصبغتهم الآيديولوجية بإعتبارهم كانوا يشكلون فيها quot;الأغلبيةً المتنفذةquot;، هذا الحضور الإخواني الطاغي، آثار في الداخل، كما في الخارج، ردود أفعال كثيرة من قبل البعض الآخر من المعارضة السورية. هذه الخلافات طفت على سطح quot;المعارضاتquot; السورية، بعد قيادة الإخوان لمؤتمرات استانبول وأنطاليا وبروكسل.
ربما الشيء الوحيد الذي يجمع هذه المعارضات السورية جميعها، بكلّ أطيافها وتلاوينها، هو اتفاقها على quot;الرفض القاطع لأي تدخل أجنبي خارجي في شئون بلادهاquot;.
إلى متى سيواجه الشعب السوري الأعزل المشتعل في الشوارع، آلة حرب النظام وشبيحته بصدوره العارية؟
بعد درعا وإنخل وداريا وبانياس وتلكلخ والرستن وتلبيسة ومعرّة النعمان جاء الدور على حماة، وحبل القتل المنظّم بآلة النظام العسكرية، لا يزال على الجرّار.
هل هناك بديل أو بدائل داخلية، تمكّن الشعب من قلب سوريا على النظام، سلمياً، لإسقاطه، ومن ثمّ الدفع بسوريا نحو التحوّل أو الإنتقال السلمي الديمقراطي للسلطة، كما تقول وتريد بيانات هذه المعارضات؟
لنقل بكلّ شفافية، أنّ الجيش السوري(على مستوى الفوق تحديداً) لا يُعوّل عليه، فهو تحوّل كأي جهاز أمني، إلى جيش تحت الطلب، من النظام إالنظام، أكثر من أن يكون جيشاً للوطن من الشعب لحماية الشعب. كلنا نعلم باّن قيادات quot;الجيش العربي السوريquot; مختارةٌ اختياراً استخباراتياًَ وأمنياًَ دقيقاً، وفق حسابات النظام الولائية، والتي لا تخلو من طائفية مكشوفة، لعب النظام عليها طيلة أكثر من أربعة عقودٍ من حكمه المفصّل تفصيلاً ديكتاتورياً مبيناً.
أما ما نراه من إنشقاقات متفرقة بين صفوفه، هنا وهناك، فهي حالات فردية، لا يمكن التعويل عليها، لأنها لم ترقَ بعد إلى مستوى quot;الإنشقاق العسكريquot;، بما لهذه الكلمة من معنى، كما رأينا في اليمن وليبيا مثلاً.
المطلع على إمكانيات المعارضات السورية، في الداخل والخارج، يعلم أنّها أكثر من ضعيفة، ولا تستيطع أن تحرّك ساكناً في الداخل، من دون الخارج. حتى المؤتمرات التي انطلقت بإسم بعض المعارضة لدعم الداخل، ما كان لها أن تحدث، بدون دعم الخارج. فلولا الدعم التركي، للمعارضة السورية في شقها الإخواني مثلاً، ما كان حصل ما حصل ويحصل اليوم، من صعودٍ ملحوظ لموقف بعضٍ من هذه المعارضة، كما نرى.
ولولا التدخل التركي(الذي هو خارجٌ كبير على أية حال) في الشأن السوري الداخلي، لما كنا رأينا الحضن التركي، هكذا مفتوحاً على آخره، للاجئين السوريين(بلغ عددهم ما يقارب 12 ألفاً) الهاربين من قمع وبطش آلة حرب النظام السوري.
ألم يقل المسؤولون الأتراك الكبار بعظمة لسانهم، أن سوريا تهمّنا، وما يحدث في داخلها يؤثر على داخلنا، وأنّ مشكلة الداخل السوري، هي مشكلة تركية تمس الداخل التركي، بقدر ما هي مشكلة سورية، على حدّ قول وزير الخارجية التركية أحمد داوود أغلو!؟
الوقائع على الأرض، تقول بالطبع ببراغماتية الموقف التركي سياسياً، سواء اختلفنا معه أو اتفقنا.
فبينها وبين سوريا، كدولة جارة quot;عمق استراتيجيquot;، ولواء اسكندرون، وقضية كردية، واتفاقيات ومصالح، وحدود طويلة، ومشاكل غير قليلة.
تركيا لم تستخدم ما تمارسه الآن من quot;تدخلاتquot;(ملفوفة بغطاء إنساني) في الشأن السوري، مع جارتها العراق عام 2003، لأن مصالحها آنذاك اقتضت quot;اللاتدخلquot;. الآن أثبت لها التاريخ على الأغلب، بأنها وقعت في حيادها quot;السلبيquot; مع العراق، في خطأ استراتيجي جسيم، تريد تعويضه على الأرجح الآن في سوريا.
بالطبع الموقف ليس واحداً، بل هو مواقف.
ففي الوقت الذي نرى من يشكر تركيا ويسمي موقفها إنسانياً بحتاً ونصرةً للشعب السوري في محنته، نرى معارضات أخرى تحذر تركيا من مغبة quot;تدخلها السافرquot; في شئون بلادها.
أياً تكن مواقف المعارضات السورية من الموقف التركي، فإنّ الأكيد هو أنّ تركيا لن تقف(مع شركائها في الناتو) موقف الحياد، إزاء أي تدهور في الداخل السوري، الذي تعتبره امتداداً استراتيجياً لداخلها.
بمعنى أنها ستتدخل في سوريا بالطريقة التي تشاء(عسكرياً أو مدنياً) في أية لحظة، تختارها هي، وفقاً لمصالحها، سواء شاء سوريو المعارضات أم أبوا. هذا على مستوى الخارج quot;المتدخلquot;.
رفض التدخل أو التدخلات الخارجية من قبل المعارضات السورية، برأيي، هو مجرد شعار، للإستهلاك الوطني المحلي، لا أكثر ولا أقل.
من يعرف النظام السوري، يعلم أنّ quot;المقاومة السلميةquot;(أو ما عرّفها المهاتما غاندي في فكره بquot;فلسفة اللاعنفquot;) في الداخل، لا تجدي نفعاً مع آلة حرب النظام، وأدوات العنف والقتل والسجن والتعذيب الرهيبة، التي يمتلكها منذ أكثر من أربعة عقودٍ من العنف المتواصل.
ما يقارب ال4 أشهر من القتل وإرهاب الدولة المتواصل، تكفي لإثبات فشل نظرية التغيير من الداخل. الداخل السوري لن يتغيّر بشكلٍ صحيح، إذن، من دون تدخل صحيحٍ مقابل من الخارج. وإلا ستتطور الأمور في سوريا، كما نرى ساعة بساعة، من سيء إلى أسوأ، ومن قتلٍ شنيعٍ إلى قتلٍ أشنع.
هذا النظام سيقاتل الشعب السوري حتى آخر شيخ وآخر إمرأة وآخر طفل، كما قال وفعل شقيقه الليبي من قبل، ولا يزال. هو سيقاتل ويقتل كلّ الشعب ليبقى هو وحده في الحكم. وما نشهده منذ 112 يوماً من قتلٍ وحشيٍّ منظم، واعتقالٍ وتهجيرٍ وتشريد وإرهاب للدولة، وفظاعاتٍ يمارسها هذا النظام بحق شعبه، يؤكد بوضوحٍ أنّه ماضٍ في خياره الأزلي: quot;إما هو أو الخرابquot;.
هل سيحميهم هذا الشعار quot;الوطني الفضائيquot; من إرهاب النظام وحصار دباباته ورصاص قناصاته وشبيحته، أم أنه سيكسب النظام المزيد من الوقت للهروب إلى الأمام، لممارسة المزيد من الفظاعات بحق الشعب السوري؟
ماذا يعني رفض تدخلٍ كهذا من الخارج، مقابل تدخلات فظيعة، يرتكبها النظام يومياً على مدار الساعة، في الداخل السوري، على مرأى ومسمع كلّ العالم؟
ثمّ أيهما أرحم quot;تدخل الخارج الأجنبي الرحيمquot; أم quot;تدخل الداخل الوطني الرجيمquot;؟
أعتقد أن شعار رفض quot;التدخل الخارجي، على مستوى المعارضات السورية، هو شعارٌ، فيه من القول أكثر من الفعل، ومن الخيال أكثر من الواقع، ومن الوطنية الشاعرية أكثر من الواقعية السياسية.
والسبب بسيط جداً، وهو لأن الداخل السوري المأزوم، الذي يستبد به النظام، ويتحكم بكلّ كبيرةٍ وصغيرة فيه بالقوة والسلاح، لن يتغيّر بدون تدخل خارجٍ قويّ. هذا من جهة.
أما من الجهة الأخرى، فما تقوم به تركيا بمباركة أوروبية وأميركية، الآن، تحت غطاء إنساني، هو تدخل quot;ناعمquot; قد يؤدي إلى تدخلات أخرى quot;خشنةquot;، إن تطلّب الأمر ذلك، كما يقول المسؤولون الأتراك على الدوام، سواء شاءت المعارضات السورية أم أبت.
في المقابل، فالأكيد هو أنّ النظام السوري، لن يسقط سلمياً، تحت ضغط ثورة الداخل، كما يريد له الشعب السوري أن يكون، من دون تدخل خارجي قوي من المجتمع الأممي.
فما هو جدوى شعار quot;اللاتدخلquot; المرفوع، إذن، من جهة المعارضات السورية، طالما أنّ النظام السوري لن يرحل أو يستحيل ترحيله تحت ضغط المبادرات الوطنية.
على هذه المعارضات السورية في الداخل والخارج أن تخرج من عباءة quot;الوطنية الشكلية الفضفاضةquot; التي ألبسها النظام إياها، واختبأ وراء quot;ممانعاتهاquot; وquot;جبهات صمودهاquot; الكاذبة، طيلة أكثر من أربعين عاماً.
على هذه المعارضات أنّ تخرج من غيتوهات quot;تربيةquot; النظام quot;الوطنيةquot;، التي أسست لوطنٍ من دون مواطنين، يأكل كالذئب أبناءه، ولدولةٍ من حديدٍ ونار يقودها ديكتاتور من دون شعب.
على المعارضات السورية الخارجة على النظام، الآن، أن تخرج على قواميس quot;وطنياتهquot; التي باعها للسوريين والعالم، طيلة أكثر من أربعة عقودٍ من سوريا عاشتها من دون سوريين.
فلتتدخل أميركا وأوروبا وكلّ دول العالم في شئون سوريا، طالما سيكون الهدف الأساس هو خلاص الشعب السوري من الديكتاتور.
- آخر تحديث :
التعليقات