لقد ذكرت في مقالي السابق (الإسلام والنظام العلماني) بأن الإسلام المعتدل لايتناقض مع أغلب القيم الليبرالية ومنها النظام العلماني كاسلوب لإدارة شؤون الدولة من خلال تنظيم العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية. فإذا كان الأمر كذلك, هل نستطيع القول بأن الإسلام المعتدل يسير في نفس الطريق الذي سارت به المسيحية بإنفصالها عن الدولة كما حدث في فرنسا عام 1905؟ الجواب نعم, ولكن ربما ليس بنفس الطريقة لأسباب عديدة. وعلى حد قول الفيلسوف جارلز تايلر, بأن لايوجد هناك سبب حقيقي يمنع المسلمين من قبول النظام العلماني, وأن حدث هذا فإنه بسبب سوء الإدارة وليس لشيء آخر. ولكن, ما أوجه الإختلاف بين المسيحية والإسلام في قبول النظام العلماني؟

يقول أولفر روي إن هناك سببان يختلف بهما الإسلام عن المسيحية. الأول هو أن فصل الدين عن السياسة غير معروف في الإسلام, والثاني هو أن الإسلام ليس دين فحسب, بل هو ثقافة أيضا ً. ففي النقطة الأولى, لاتوجد مؤسسة إسلامية كالتي في المسيحية حيث لايوجد كهنوت في الإسلام, وعلى هذا الأساس لايمكن الحديث عن فصل الدين عن السياسة في الإسلام بنفس الطريقة كما في المسيحية, أي ما لله لله وما لقيصر لقيصر. أما ما يخص النقطة الثانية, فالإسلام هو دين وطريقة للعيش مرتبطة بنظام قانوني تشريعي من خلال الشريعة الإسلامية. وعلى هذا الأساس لايمكن الحديث عن فصل كل ماهو ديني عما هو ثقافي, وبالتالي فصل الثقافي عما هو سياسي. أضف إلى ذلك بأنه لايوجد في الإسلام فصل بين ماهو خاص وماهو عام, فالإسلام شامل لجميع نواحي الحياة كما يقول الأستاذ طارق رمضان. إذن, نحن أمام دين ونمط يختلف بشكل كبير عن المسيحية فكيف سيسير في نفس طريقها نحو العلمانية؟

كما وضحت مسبقا ً بأن الإسلام المعتدل يقبل العلمانية كنظام مادام لايخالف الشريعة الإسلامية, حيث هي البديل الأفضل بعد فشل التجارب العديدة لإقامة الدولة الدينية. وفي نفس الوقت, لابد أن نفهم بأن العلمانية مع الديمقراطية لاتلغي الدين, بل تعيد ترتيب دخوله للحياة السياسية من خلال الديمقراطية. وعلينا أن نفهم بأن مفهوم الحكومة في النظام العلماني ليس كما هو في النظم الشمولية أو الدكتاتورية وغيرها, بل يقتصر على إدارة الدولة بشكل فني ومهني كإدارة أي شركة تجارية, من خلال مجموعة من التكنقراط. ففي النظم الليبرالية تكون الحكومة أضعف مايكون مقابل الحريات الفردية التي تعبر عن نفسها من خلال الإعلام الحر وتنظم إرادتها ومصالحها من خلال منظمات المجتمع المدني, والأحزاب السياسية. إن عملية صنع القرار السياسي لاتقوم بها الحكومة لوحدها, فالحكومة تكون الجزء الأقل تأثيرا ً وفاعلية في صنع القرار, فدورها الأكبر هو تنفيذ هذا القرار والذي يكون عملا ً فنيا ً بحتا ً. أما عملية صنع القرار التي يمكن للدين أن يشارك فيها فهي تتم في دائرة الفضاء العام. أن الفضاء العام (public sphere), على رأي هابيرماس, هو المجال المحصور بين الفضاء الخاص (private sphere) والفضاء الحكومي (authorities). ويشتمل الفضاء العام على وسائل الإعلام المستقلة كافة, وعلى البرلمان والمنظمات المستقلة ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب. ففي الفضاء العام لابد لجميع الأطراف التشاور, والتحاور, والتداول من أجل صياغة خطاب عقلاني نقدي توافقي (rational-critical consensus) موحد يؤدي إلى المصلحة العامة للبلد(common good). أما إذا أختلفت الآراء فيمكن للمتنافسين أن يصنعوا فضاء ً فرعيا ً (subaltern counter-public sphere) لصياغة خطاب بديل عن الأول, حسب رأي نانسي فراسر.

إذن, في كل الأحوال يمكن للدين أن يدخل في السياسة من هذا الباب من خلال المشاركة في الحوار لخلق حالة من التواصل التفاعلي مع الآخرين, حيث سيمكن الدين, من خلال الأحزاب, الدخول في هذا الحوار لصياغة خطاب يمكن أن يؤدي لحالة تشريعية في البرلمان. أو يمكن للدين أن يكون فاعلا ً أخلاقيا ً من خلال المساهمة في منظمات المجتمع المدني التي دورها يقتصر على رفع قسم من هموم ومسؤوليات المجتمع عن كاهل الدولة. فيمكن للمنظومة التشريعية الإسلامية أن تندمج مع القوانين الوضعية بعد تحديثها وملائمتها مع الحاجة والواقع من خلال طرحها كأفكار في البرلمان ومن ثم تحويلها لقوانين. ويمكن للمنظومة الأخلاقية أن تمارس عملاً جبارا ً لخدمة الناس ومساعدة الدولة من خلال منظمات المجتمع المدني. حتى يمكن لعلماء الدين أن يفتوا بما يريدون على شرط أن لايخالف ذلك الدستور والتشريعات والقوانين للدولة, كالفتاوى التي تحد من الحريات العامة أو التي تشكل تهديدا ً لثقافة أو عرق أو مذهب آخر. فحرية التعبير مكفولة بالدستور حتى لشيوخ وعلماء الدين الذين يريدون أن يدلوا بدلوهم من خلال الفتاوى, على شرط أن لاتخالف القانون ولاتكون ملزمة للحكومة , بل ملزمة فقط لمن يريد أن يلتزم بها.

السؤال المهم هو هل يمكن أن يحدث ذلك, وكيف, أم تلك صورة مثالية فقط أقرب هي للخيال منها إلى الواقع. يقول هابيرماس وتايلر يمكن ذلك بشروط. الأول هو الإيمان بالديمقراطية, فعندما نؤمن بالديمقراطية لابد من الإعتراف بالآخر وقبوله والتعامل معه على أساس الإيمان بالتعددية. وقبول الديمقراطية يعني القبول بالمساواة بين الجميع بالمشاركة السياسية وأمام القانون, وأهمها المساواة بين الرجل والمرأة. أما الشرط الثاني فهو تجاوز الدوغما الدينية من خلال التخلي عن العنف وعن الفكر الإستاصالي, أي التخلي عن الإعتقاد بأني على صواب ومن يخالفني بالضرورة يكون على خطأ ولابد أن يتبعني شاء أم أبى. أي بإختصار شديد, إختزال الخطاب الديني الميتافيزيقى الغيبي إلى خطاب عقلاني قابل للتفاعل مع الآخر بنفس المشتركات لإنجاح عملية التشاور والتداول والتحاور مع الآخر المختلف. إذن, هذان من أهم الشروط التي يجب توفرها, فمن الناحية العملية دخلت الكثير من الأحزاب الدينية العمل السياسي من خلال هذين الشرطين, وبالخصوص الثاني والذي تؤكد على أن الفكر الإسلامي المعتدل يحمل في جذوره فكر أبن رشد والمعتزلة العقلانيين وما عليه سوى العمل بهما بعد تجديدهما.
خاتمة
بعد كتابة هذه المقالات أود أن أذكر بأن اللحاق بركب الحضارة لايتم إلا من خلال الحوار مع الآخر المختلف من خلال مراجعة شاملة لقيمنا وتراثنا وثقافتنا لتكون أكثر فاعلية وواقعية. أما فكرة التصادم مع الآخر فلاتخدم سوى المنتفعين والإنتهازيين الذين يعيشون على حروب الآخرين. إن الدين الإسلامي يمكن أن يتصالح مع القيم الليبرالية إن لم يكن هو أحد مؤسسيها والداعين إليها من خلال ترسيخ منهج العقل والتجربة في أزمان متعددة ومن قبل فلاسفة وعلماء مختلفين. فالمشكلة بالأصل ليست دينية فحسب بل ثقافية وسياسية تتعلق ببنية المجتمعات العربية التي يعود جذورها إلى ماقبل الإسلام. إذن, إن كان علينا المضي قدما ً فلابد من دخول عصر الحداثة الذي تجاوزه الآخرون إلى مابعدها, وذلك من خلال المصالحة والحوار مع الآخر, ولكن قبل ذلك علينا المصالحة والحوار مع أنفسنا في مراجعة شاملة لكل قيمنا التي نؤمن بها, بما فيها تصوراتنا عن العقيدة والدين والأخلاق.


[email protected]
http://www.elaphblog.com/imadrasan