قبل أن نصل إلى سويسرا قضينا ثلاثة أيام فيلبنان نتنقل بين بحره وجباله، زرنا مغارة جعيتا المثيرة للإعجاب وبعض متاحف الشمعلبعض المشاهير، و القلاع القديمة. وكلمرة ادخل متحفا أجد رغبة في التصوير مع تمثال جبران خليل جبران.

ويستغرب الأولادتحدثي إليه وكأنه لايزال عائشا حيث اكرر نفس العبارة التي أخاطبه بها كلما رأيتتمثاله الشمعي قائلا له : كيف حالك يا من أضاء العقول المظلمة، ودائما أتذكر كيف أضاءلي هذا العبقري دربا مظلما وحلق بي في سماء الفكر والأدب منذ أن قرأت له كتاباوجدته في أحد بقالات المدن الأمريكية في الثمانينات الميلادية وأنا في ذلك الوقتشاب صغير السن لم أدرك القيمة العظمى للقراءة وخاصة عندما تقرأ لعظيم كجبران خليلجبران الذي خلده الغرب قبل العرب ودشنوا له حدائق تحمل عباراته العظيمة. لكننيرغم فرحتي بالتحدث مع تماثيل جبران الشمعية في لبنان حزنت لعدم وجود تمثال شمعيلعبقري لبناني آخر واقصد ميخائيل نعيمة الذي من وجهة نظري لايقل شأنا أدبيا عنجبران، وقد كان شريكا له في رابطة المهجر التي أسسوها بأمريكاومنها انطلق نور الفكر العربي الحديث يبث أشعته في أرجاء العقول العربية الشغوفةبحب المعرفة الغنية بالإبداع الأدبي والفكري.

كانت لبنان هذه المرة مثيرة أكثر من زياراتيالأولى لها، لأن الأولاد أرغموني على زيارة الآثار والمتاحف وكم كنا نشعربالسعادة كلما مررنا بحي تتجاور فيه الكنيسة والمسجد، فندخل المسجد لنصلي فرضا حلوقته، ثم نعرج على الكنيسة لنشهد تراتيل ترتاح لها أنفسنا ونضع قليلا من الصدقاتالبسيطة في صناديق التبرع في المسجد وفي الكنيسة ويغمرنا شعور جميل ونحن نتجاوزعقد التاريخ وترسبات السياسة التي تجعل من الدين في العالم العربي وسيلة لبثالكراهية والتفرقة بين شرائح المجتمع الواحد.

كان كل شيء في لبنان مثيرا ورائعا إلا ماتتركه السياسة من مسميات طائفية تجعل من بلد صغير كلبنان وكأنه عدة أوطان، وهذاما سهل لكل عابث أن يطيل من عمر النزاع السياسي بين فئات المجتمع اللبناني المغطىدائما بملابس الدين المسيس.

وعندما اصل إلى بلد مثل سويسرا التي يتكونفئات شعبها من ثلاث قوميات ألمانية وايطالية وفرنسية، استغرب أنني لا اشعر بتلكالفوارق القومية في الوقت الذي يعاني اللبناني في بلده الصغير من انقسامات سياسيةمنذ أكثر من ثلاثين سنة أدت إلى خلق نزاعات وحروب أهلية أخرت تقدم الإنساناللبناني فترات طويلة كانت كفيلة بجعله في مصاف الدول الأكثر تحضرا كونه يملكعقلية عربية استثنائية في التعامل مع الحياة بحب وذوق ورغبة جامحة للعيش بترف.

والأكثر استغرابا أن يعيش السويسري القادم منقوميات متعددة وسط نظام ديمقراطي لاينبثق من تقسيم ديني طائفي، في الوقت الذيلايزال اللبناني يتمسك بفكرة العيش وتداول السلطة حسب التقسيم الطائفي وهو الأكثرانتماء إلى قومية واحدة.

هنا في سويسرا : أيقنت انه لايمكن لشعب أوامة أن ترتقي إلى مصاف الشعوب المتحضرة، مالم تخلق أنظمتها الديمقراطية التي لاتنطلق من مبدأ تقسيمي ديني أو عرقي، ولنا في أمريكا التي تحكم العالم عبرة وقد أسستدستورها العظيم على مبادئ لا تنظر للإنسان من خلال لونه أو دينه بقدر ما تنظر لهعلى قدر ما يبدع، حتى أصبح ذلك الرجل الأسمر القادم من أدغال أفريقيا ابن حسينالمسلم رئيسا لأمريكا في الوقت الذي لايزال الكثير من المبدعين في البلاد العربيةمحروما من الوصول إلى درجة مدير إدارة أو وكيل وزارة بسبب تميزه المذهبي أوانتماءه الإقليمي.

صحيح أن الأنظمة المتخلفة ترسخ الشعوربالتفرقة بين فئات شعبها كي تبقى مستبدة بالحكم، لكن ما يشهده العالم العربي منثورات يثبت لنا أن الشعوب قد ملت النزاع الذي تؤسس له الأنظمة المستبدة برغم ماتعانيه تلك الشعوب من جهل وتجهيل وفقر وتخلف، ولابد أن ينعكس السحر على الساحرويكون الضحية في النهاية : كل من تاجر بالدين واستخدمه سلاحا للهدم والكراهية والتسلطعلى حساب تقدم الانسان وحريته وكرامته!

لكن المؤلم حقا : أن الشعوب العربية قداستيقضت من غفوتها، ولاتزال الأنظمة العربية تغرق في نومها العميق غير مصدقة أنالعالم يتغير، وان شعوبها جزء من هذا العالم الذي يكبر عقله وتصغر مساحته، فيالوقت الذي يشيخ النظام العربي ويصغر عقله!

[email protected]