الشيخ علي الشبوط كان أحد الإقطاعيين الكبار في الكوت في العهد الملكي. وكان نائبا مقيما في البرلمان إلى أن أممت حكومة 14 تموز جميع أراضيه، فاضطر لمغادرة الكوت والعيش في العاصمة.

ورثه إبنه الشيخ عبد الله الشبوط (أبو فاتن). فنسي أمجاد أبيه السياسية الغاربة، واقتحم عالم التجارة، وقرر أن يفلح فيه ويبرز ويصبح من رجالاته الناجحين. وقد فعل.
أسس (محلات فاتن) الشهيرة للأجهزة الكهربائية المنزلية في شارع الرشيد. واختار لها موقعا مواجها لمحلات أورزدي باك العظيمة، متحديا ومنافسا صعبا وقويا ومخيفا لهذه الامبراطورية التجارية العريقة.

هذا هو الجانب العملي في شخصية أبي فاتن. لكن جانبها الثاني كان الضرف واللطف والسرعة العجيبة في اختراع الطرفة وصنع النكتة الواعية المثقفة الآسرة. فذاع صيته بسرعة وكثر أحباؤه ومريدوه، وصار مكتبه المنزوي في آخر مخزنه التجاري الكبير، مزارا يوميا لأبرز قادة العراق، عسكريين ومدنيين، سياسيين وتجارا وأدباء وصحفيين وفنانين.

روى لجُلاسه ذات يوم هذا الواقعة.
قال quot;أفقت ذات صباح على أصوات معاول تحفر في باب داري في المنصور ببغداد. فخرجت مسرعا لأتبين سبب هذه المعاول. فوجدت أربعة من عمال بلدية المنصور بـ (ملابس سود) يحفرون حول الأنبوب الرئيسي الذي يزود الدار بمياه البلدية. فعرفت أنهم من أقاربي الروحيين (الشيعة)، فسألهتم: ماذا تفعلون؟ قالوا: أنت لم تدفع فواتير الماء، ونحن هنا لنقطع الماء عن الدار. يقول أبو فاتن، فقلت لهم: كيف تقطعون الماء عني في يوم عاشوراء، وأنا سيد جدي رسول الله؟ سألوا بلهفة واحترام: صحيح أنت سيد جدك رسول الله؟ قلت: نعم. يقول: فهبوا على الفور وراحوا يُهيلون التراب على الأنبوب، ويعيدون دفنه من جديد، ويعيدون كل شيء إلى سابق عهده، وهم يرددون: لا تدفع لا تدفع، ملعون أبو الحكومة.quot;

هذه الواقعة العابرة التي رواها أبو فاتن، من باب النوادر الضاحكة، حكاية حزينة ومريرة أيضا. فهو لم يقصد ولم يعلم بأنها تأكيدٌ منه لصحة تحليل العلامة علي الوردي لطبيعة المجتمع العراقي القائل بأنه خلط المدينة بالبادية، والمدنيَّة بالبداوة، والتحضر بالتخلف. وهو، فوق هذا وذاك، صراع دائم بين حدائق الجبل ورمال البادية. بين مدنية الآشوريين والكلدان والصابئة وبين بداوة القبائل المهاجرة من الجزيرة العربية التي استوطنت العراق، وعاشت فيه، وزاحمت أهله السابقين.

وأبرز ما ركز عليه الدكتور علي الوردي أن الشخصية العراقية هذه جلبت معها القيم العشائرية البدوية الراسخة. وحين دخلت إليها قيم العصر الحديث تفجر الصراع، داخلها، بين قيم الأمس ومفاهيم اليوم، فصار المواطن العراقي نسيجا من التناقضات المتآلفة. حتى أصبح شيئا معتادا وطبيعيا ومشكورا أن يتعصب العراقي لدينه، ولقومه، ولعشيرته، ولمدينته، ولحزبه، ورئيسه. وحتى الأحزاب السياسية تحولت إلى قبائل من نوع جديد. وأصبح الولاء لرئيس الحزب نوعا من الولاء الواجب المقدس لرئيس العشيرة. وليس مسموحا به أبدا لدى العراقي الجديد أي ُ نقاش أو أي شك في عدالة الزعيم والرئيس.

والويل كل الويل لمن يخالفه في قناعاته الدينية أو الطائفية أو الاقتصادية أو الثقافية أو السياسية. ومن يفعل ذلك يكون خارجا على القانون وعلى الأعراف والتقاليد والأصول.
وحين يقف أمام لحظة اختيار حاسمة بين الوطن والعشيرة، أو بين الوطن والقبيلة أوالدين أو الطائفة تجده يختار العشيرة والقبيلة والطائفة والدين، ويتسهل مع الوطن، دون ريب.
وبالعودة إلى النادرة التي رواها أبو فاتن عن العمال المتدينين البسطاء نجد أنهم مخلصون جدا لقناعاتهم الدينية والطائفية يستحقون الشكر والتكريم، ولكنهم، بمقاييس الدولة وقوانينها، ينبغي عقابُهم لأنهم خالفوا قوانين العمل وخانوا الواجب الوظيفي. ثم يكون من يسكت عنهم خائنا لدولته العراقية الواحدة، ومن يعاقبهم مارقا مُخلا بالشرف والعقيدة والأصول.
من هذه المقدمة المطولة نصل إلى حديث الهوية الوطنية العراقية المزعومة التي لا وجود لها، مهما فعل المخلصون الوطنيون العراقيون الذين يحلمون بقلب الحقائق، والقفز عليها، ومحاولة إحياء صيغة (الأمة العراقية) الواحدة. وحتى صيغة (الشعب العراقي) الواحد مشكوك فيها هي الأخرى، وقد لا تكون حقيقة. فنحن شعوبٌ وأممٌ وملل وقبائل وطوائف متفرقة مُجبرة على العيش معا، على مضض.

وأخونا الباحث والكاتب المرموق سليم مطر، وصديقنا السياسي (المركون على جنب) مثال الآلوسي يتجاوزان الواقع المر، ويحفران في الصخر الصعب، في محاولة منهما للقفز على الحقائق، ومحو الهوية القبلية والعشائرية والطائفية والعصبية القومية من المواطن الذي اتفق على تسميته بالعراقي بحكم الواقع المفروض بالقوة والجبروت.
فالعراقي اليوم، في أعقاب ما حل بالعراق من تقلبات وانقلابات وحزازات وثارات وأحقاد وخلافات، وخاصة في الفترة من 14 تموز/يوليو 1958 وحتى اليوم، أسرع ارتدادا إلى الخلف، وأشد تعصبا لخصوصيته العِرقية والدينية والطائفية والسياسية، وأكثرُ مناعة من ذي قبل على التقدم والتحضر، وأكثر بُعدا عن الاقتراب، ولو قليلا، من الانتماء إلى وطن اسمه العراق، وتقديمه على العشيرة والقبيلة والقومية والطائفة والدين.

نحن شعب من الملل المتنافرة والقبائل المتقاتلة، في العلن وفي الخفاء. وليس ممكنا أن نفيق ذات صباح فنجد أننا أمة واحدة وشعب واحد راضون قانعون بالعيش المشترك والتكافؤ في الفرص والمقادير والحظوظ.

ومعذرة من زملائنا المتفائلين الذين يُبسطون الأمور، ويستسهلون الصعب، ويطلبون المستحيل. فليست دعوة أسامة النجيفي، القومي العربي، ورئيس برلمان العراق، وصديق أمريكا والبعث والسعودية، ونتاجُ المحاصصة والشراكة الوطنية والموائد المستديرة، إلا نقطة حمراء فاقعة على حرف كبير.

إن دعوته إلى استقلال المثلث السني، عوضا عن الوحدة العراقية التي بشر بها في الانتخابات الأخيرة، ثم عن الوحدة العربية التي استحق مكانه في السلطة الحاكمة اليوم على أساسها وباسمها وبأصوات أبطالها، مقدمة لما هو أعظم سوف يحل بالعراق من التفتت والتشتت والتشرذم. وليس بالإمكان حل آخر أقلُ مرارة وأكثرُ حلاوة على قلوب المخلصين الطيبين أمثال سليم مطر ومثال الآلوسي وعادل بقال. فالأمة العراقية الواحدة حلمٌ بعيد المنال.