quot;ليست العلمانيّة أيديولوجيا خلاصيّة لأنها كما يقول عزيز العظمي ليست بصيغة أو قول واحد بل هي موقع تاريخي يتمظهر اختلافاً في التشكيلات التاريخيّة المختلفة، وليس صحيحاً أن الإسلام لا يميّز بين الديني والدنيوي، وحديث quot;تأبير النخلquot; أسطع دليل على ذلك، وليست العلمانيّة إشكاليّة غربيّة فقط، كما يدّعي حسن حنفي وغيره، بل هي ظاهرة امتدّت على طول التاريخ العربي الإسلامي، لكنّها دائماً قُتلت في المهد على يد الدولة القمعيّةquot;.
وقال أيضاً الدكتور جون بشارة محاضراً في ندوة لجنة المتابعة لإسقاط النظام الطائفي في لبنان وحضرها عدد من المثقّفين في مركز جمعيّة بحنين ـ المنية الخيريّة ـ سيدني: quot;إنّ دعاة العَلمانيّة في عصر النهضة من أمثال شبلي الشميّل وفرح أنطون وخليل سعادة وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم كانوا متأثّرين جدّاً بالفلسفة الوضعيّة وبتفاؤليّة عصر التنوير الذي وعد بتحرّر الإنسان من قيوده والتخلّص من عبوديّات القرون الوسطى، وقد انعكست هذه التفاؤليّة بالدعوات العلمانيّة الشاملة، لكن عصر التنوير في أوروبّا لم يتجاوز زمن العبوديّات، بل إنّ البشر مازالوا يصنعون أغلالهم وأوهامهم، وقد انتهى التنوير في أوروبّا إلى حروب إستعماريّة وحشيّة في العالم الثالث وحروب عالميّة رهيبة وعمليّة تطهير عرقي في عواصم المتروبّول، ممّا حدا بعضهم إلى إعادة قراءة مفهوم التقدّم وعلمنة المجتمعquot;.
وقال الشاعر شوقي مسلماني مقدّماً الدكتور بشارة: quot;quot;الشعب يريد إسقاط النظام الطائفيquot; شعار نبيل، فهو يُبطِن أنّ الشعب واحد، له حقوق وعليه واجبات لا تتفاوت بين مواطنين أحرار، هذا الشعار ذاته يرفعه لبنانيّون في مختلف

من اليمين: عبد المجيد حجازي، جون بشارة وشوقيمسلماني

مناطقهم، لا يطيقون، وتحت أي ذريعة، أن يتمّ توزيعهم على مزارع وحظائر، ويشعرون بالخجل أن يكون نظامهم آسناً محرِّضاً على الكراهية والرشوة والتهجير الأمني أو الإقتصادي. والكلّ يعلم إنّ هذا الشعار يستمد مشروعيّته من أصالة إنسانيّة نتمسّك بها وبالتالي فالمسألة ليست في مدى إمكان تحقيق الشعار من عدمه، وليست مسألة تفاؤل أو تشاؤم، بل مسألة حق، وأقلّه أن نشعل شمعة في سبيله خير من أن نكتفي بصبّ اللعنات على الظلمات.
ولبنان، ومنذ تأسيسه، والأزمات تأخذ بخناقه، مرّة تهدّد بحرب أهليّة، ومرّة تباشر بها، وليس سبب هذه الأزمات سوى المصالح الخاصّة الأنانيّة، والتي كلّما انحشرت في زاوية زمجرت باسم العصبيّة القبليّة الجديدة أي الطائفيّة، وتوعّدت أن تهدم الهيكل على رؤوس الجميع. لكن اللبناني الذي يدفعونه بعد تجويعه ليلتفت إلى منفعته الخاصّة الضيّقة من دون الإلتفات إلى مآسي غيره من بني وطنه لا يزال يؤكّد إن الملح لم يفسد كلّه، ولذلك نرى هذا الحراك النبيل لإسقاط نظام الفساد والإفساد أي النظام الطائفي.
والمعروف إن اللاعبين الكبار على الساحة العربيّة هم عموماً الأميركي والأوروبّي والإسرائيلي والأنظمة العربيّة المتخلّفة، لكن لاعباً جديداً دخل على الخط وهو الشعب الذي يقول quot;أنا أريدquot; وهو لا يزال في آلام المخاض من دون أن تغفل أعين الضباع عنه. وشعب لبنان أيضاً يريد، وأيضاً عيون الضباع عليه، والمعيقات جمّة مثل أينما كان، من دون أن يهتزّ إيماننا المطلق بأن التغيير ممكن على قاعدة إنّ الإنسان حرّ بالطبع لا بالتطبّع وإن التنوّع ضمن الوحدة هو غنى ولا تكون هذه الوحدة سوى بانتخابات عادلة عمادها النسبيّة وقانون مدني إختياري وإلغاء الطائفيّة السياسيّةquot;.
وفي ما يلي موجز ما طرحه الدكتور بشارة بنصِّه: quot;إن العَلمانيّة هي مفهوم خاضع للجدل بصورة جوهريّة. لذلك يقول شبلي العسيمي في كتابه quot;العلمانيّة والدولة الدينيّةquot;: إنّ تحديد معاني الألفاظ والمصطلحات التي نستخدمها في أي بحث أو حوار أمر ضروري ومهم لاستبعاد الكثير من عوامل الإختلافquot;. ومن هنا فإن تحديد المعنى أو المعاني والمفاهيم المتّصلة بالعَلمانيّة يوضّح الأسس والضوابط التي لا بدّ منها لهذا البحث، فأن نقول بالعَلمانيّة الجزئيّة شيء وأن نقول بالعَلمانيّة الشاملة أو العَلمانويّة شيء آخر تماماًَ. العَلمانيّة تُنسَب إلى العالم أو العالميّة، ونقول أن العلمانيّة تقوم على الإهتمام والتعاطي مع العالم تمييزاً عن العالم الآخر، ولا يعني هذا الإهتمام بالضرورة التقليل من شأن الدين أو تغييب العالم الآخر. نحن لا ننكر أن الإهتمام بالحاضر أو الدنيوي يتمّ على حساب الإغفال النسبي لوجود عوالم أخرى.
إن فصل الدين عن الدولة هو شعار عمّا تعنيه العلمانيّة. ليست العلمانيّة فصل الدين عن المجتمع، ولم تكن دائماً فصلاً تامّاً بين الدولة والدين، هنالك دول عديدة تعرف بنصف علمانيّة (هولندا وبريطانيا). النقطة الأساسيّة في العَلمانيّة هي تحييد الدين عن الدولة، ممّا يعني أنّه ليس للدولة هويّة دينيّة، كما نقول مثلاً دولة إسلاميّة أو هندوسيّة أو مسيحيّة. نضيف بأن العَلمانيّة هي مذهب فكري يفصل بين حقل السلطة الدينيّة وحقل السلطة السياسيّة، وهي في جوهرها مسألة سياسيّة لا مسألة دينيّة، وليس الإسلام بذاته هو الذي يعارض العلمانيّة بل أن الدولة هي التي لا تريد أو لا تستطيع إقامتها، إنّه من الضرور التأكيد على أن العَلمانيّة ليست أيديولوجيّة خلاصيّة كما افترضت فئة من مثقّفي عصر النهضة، فلأن قامت العلمانيّة في الغرب على أساس تحييد الدين عن الدولة فإن العَلمانيّة في المجال العربي الإسلامي لا بدّ أن تقوم أيضاً على تحييد الدين.
ليست العلمانيّة أيديولوجيا خلاصيّة لأنها كما يقول عزيز العظمي ليست بصيغة أو قول واحد بل هي موقع تاريخي يتمظهر اختلافاً في التشكيلات التاريخيّة المختلفة، وليس صحيحاً أن الإسلام لا يميّز بين الديني والدنيوي، وحديث quot;تأبير النخلquot; أسطع دليل على ذلك، وليست العلمانيّة إشكاليّة غربيّة فقط، كما يدّعي حسن حنفي وغيره، بل هي ظاهرة امتدّت على طول التاريخ العربي الإسلامي، لكنّها دائماً قُتلت في المهد على يد الدولة القمعيّة. ويقول جورج طرابيشي أن التمييز بين الإخرويّات والدنيويّات أو بين السياسة والدين أو بين الخلافة والسلطنة موجود في الإسلام، لذلك يجب رفض طلب الجابري بسحب المفهوم نهائيّاً من القاموس التداولي للفكر العربي في غيتو اللامُفكَّر به والممنوع التفكير فيه. هناك نشأة مستأنفة للأدبيّات العلمانيّة في الغرب منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي. إنّ كوناللي ومارتن في الولايات المتّحدة طالبا كما يطالب الجابري عندنا بالإستغناء عن هذا المفهوم الذي يثير بعض الحساسيّات، وهناك أيضاً مفكِّر فرنسي يدعى موريس باربييه حاول في كتابه عن العَلمانيّة أن يفكّ العلمانيّة من قيود الإيديلوجيا أو من سوسها الذي لا يفتأ ينخرها منذ أن كفّت أن تكون مجرّد قانون لتنظيم العلاقة بين الدولة والدين. ويضيف قائلاً إلى إنه لا يجب أن تتحوّل العلمانيّة إلى مقولة قائمة بذاتها وموضوعاً للمناقصة أو المزايدة أو للهوى الإيديولوجي، هذا يعني أن العلمانيّة ليست إيديولجيا بل هي وسيلة تختلف في سياقات تاريخيّة مختلفة.
إنّ دعاة العَلمانيّة في عصر النهضة من أمثال شبلي الشميّل وفرح أنطون وخليل سعادة وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم كانوا متأثّرين جدّاً بالفلسفة الوضعيّة وبتفاؤليّة عصر التنوير الذي وعد بتحرّر الإنسان من قيوده والتخلّص من عبوديّات القرون الوسطى، وقد انعكست هذه التفاؤليّة بالدعوات العلمانيّة الشاملة، لكن عصر التنوير في أوروبّا لم يتجاوز زمن العبوديّات، بل إنّ البشر مازالوا يصنعون أغلالهم وأوهامهم، وقد انتهى التنوير في أوروبّا إلى حروب إستعماريّة وحشيّة في العالم الثالث وحروب عالميّة رهيبة وعمليّة تطهير عرقي في عواصم المتروبّول، ممّا حدا بعضهم إلى إعادة قراءة مفهوم التقدّم وعلمنة المجتمع.
نستنج من ذلك كلّه أن العلمانية الشاملة لم تعد مطلباً عقلانيّاً، لذلك علينا التركيز على علمانيّة متواضعة لا تحاول إلغاء الدين في المجتمع، ويمكننا القول أن دعاة العلمانيّة ذاتهم لم يعتمدوا العقلانيّة والحداثة التي تستلزمها العلمانيّة، ولم يصفّوا حساباتهم مع التقاليد البالية، وكانوا يتصرّفون أحياناً كما لو أنهّم ليسوا بعلمانيين. يقول شبلي الشميّل مثلاً أن المرأة أضعف من الرجل جسداً وعقلاً وأخلاقاً وأن انحطاطها عن الرجل يزداد، كما نرى ان الكواكبي يمتدح العادة الصينيّة التي تشوّه أقدام الفتيات لأجل أن يصعب عليهن السعي في إفساد الحياة الشريفة، كما أن جورجي زيدان يعترض على الإختلاط الزائد الذي فيه مراقصة، لأنه ينافي عوائدنا الشريفة. المشكلة الأساسيّة هنا في هذه الردّات المتوحّشة. إن دعاة العلمانيّة في عصر النهضة كانوا تقدميين في الفكر السياسي ورجعيين أو محافظين في الفكر الثقافي. ولعمري هذه الآفة هي عالميّة المنحى، لأن معظم الثوّار والتقدميين في العالم كانوا ضحايا هذه الفجوة بين التقدّميّة السياسيّة والتقدّميّة الثقافيّة. والتقدّميّة السياسيّة، أخيراً، لا يمكن أن تنجح بدون تقدّميّة ثقافيّةquot;.