فإذا كان نظام الحكم ملكيا ً أو جمهوريا ً أو شموليا ً أو دكتاتوريا ً، فبالتأكيد سيكون هناك فرق في تطبيق النظام العلماني. الكل يعرف بأن أغلب الدول العربية علمانية في نظامها، فهي تفصل الدين عن إدارة الدولة. إن سيطرة حزب واحد، كما في العراق سابقا ً وفي سوريا اليوم، أو سيطرة أيدلوجية واحدة كما في كوبا والإتحاد السوفيتي سابقا ً، أو سيطرة فهم واحد للدين وتحوله إلى أيدلوجيا كما في النظام الثيوقراطي في أيران، يجعل من الدين أداة أو ضحية يتم إستغلالها من قبل الدولة. لهذا السبب يكون الدين بعيدا ً عن الخطورة في حماية النظام العلماني مع وجود الديمقراطية، حيث التعددية وضمان حرية الأديان.
لقد كتبت في مقال سابق بعنوان (الدين والدولة في النظام العلماني!)، أن هناك نوعان من العلمانية، الأولى تسعى لفصل الدين عن المجتمع، كما في فرنسا، في تركيا، والثانية تسعى لفصل الدين عن الدولة كما في أغلب الدول الغربية. في هذا المقال سيكون النوع الثاني هو المنطلق النظري من أجل فهم أكبر للعلمانية وطريقة ملائمتها مع الديمقراطية لمجتمعاتنا العربية.
كما ذكرت سابقا ً بأن النظام العلماني هو الإطار القانوني الذي يحفظ حقوق وحريات الأفراد والأقليات، ويحفظ حرية التعبير من خلال فتح الفضاء العام (public sphere) أمام وسائل الإعلام ومن خلال الشفافية في إدارة الدولة، حيث تكون الدولة هي نقطة الصفر أو الحياد بين جميع الأفراد والمجموعات، أو في أقصى حد تميز الدولة بعض المجموعات من الأقليات والمهمشين تميزا ً ايجبيا ً في مجتمع متعدد الثقافات (multicultural). إن فلسفة العلمانية قائمة على فصل كل ماهيو غيبي، ميتافيزيقي عن شؤون إدارة الدولة والتي تعتبر شأناً دنيويا ً بحتا ً خاضع للعلم والتجربة بعيدا ً عن إملاءات المؤسسة الدينية. وتعود تلك الفلسفة في جذورها إلى الحركة الإنسانية التي ظهرت في عصر النهضة في القرن الرابع وبداية الخامس عشر في إيطاليا، حيث التركيز على الإنسان كمحورللحركات الاجتماعية والثقافية. إلا أن العلمانية وحدها غير كافية لحماية تلك الحريات والحقوق، فالعلمانية كنظام في إدارة الدولة يعتمد في تطبيقه على شكل وطبيعة نظام الحكم في البلد.
إذن، نحن هنا أمام تحد جديد، وهو سيطرة الدولة، أو الحزب، أو القبيلة، أو الأيدلوجيا حتى الإسلامية منها، على المؤسسة الدينية حيث تقوم بإستغلال الدين أو محقه تماما ً. فالدين هو الآخر بحاجة لحماية في ظل العلمانية وليس حماية الدولة منه فقط. فالأيدلوجية الشيوعية لم تدخر وسعا ً في طمس الثقافة الدينية بإعتبارها أرث ميتافيزيقي متخلف أو افيون للشعوب. أما الأنظمة الشمولية فهي تسيطر على جميع مفاصل الدولة بما فيها المؤسسة الدينية محاولة تسخيرها من أجل خدمة الحزب الواحد أو الأيدلوجية الواحدة. فلا ننسى بأن الحوزة العلمية في النجف في العراق كانت تتعرض بإستمرار لضغوط الدولة المتمتثلة بحزب البعث من أجل الحصول على مواقف سياسية تخدم الحزب، أو أستغلال الدين في الحملة الإيمانية من أجل نفس الهدف. حتى في الأنظمة الأقل عنفا ً ودكتاتورية، نرى أن رئيس المؤسسة الدينية ينصب من قبل الملك أو رئيس الدولة، أوليس ذلك تدخل السياسة بالدين وليس العكس!
من هذا المنطلق، تكون العلمانية ليس من أجل حماية الدولة من الدين فحسب، بل من أجل حماية الدين من الدولة التي تستغل الدين لخدمة أيدلويجة معينية أو حزب معين، كما يقول اولفر روي، أو حماية الدين من التدين السياسي وتحول الدين إلى ايدلوجية. أن مشكلة التدين السياسي ومشكلة الايدلويجة تكون أساسية أو أصولية في طبيعتها (fundamental)، حيث تتعامل مع كل مايحدث من حراك إجتماعي أوتتعامل أيضا ً مع الآخر ليس بما هو كائن، بل بما يجب أن يكون. فكل أيدلويجة تنظر للأشياء، ومن ضمنها الحراك الاجتماعي والسياسي، نظرة كما ينبغي أن يكون أو يجب أن يكون (ought) (أي تتضمن فعل الإستطاعة(can)) وليس كما هي (is) في الواقع، حيث الإشكالية بين ماهو كائن وما يجب أن يكون إشكالية فلسفية قديمة في فلسفة الأخلاق. إذن، ليس المهم هو النظام العلماني كفلسفة بذاته بدون إرتباطه بالديمقراطية كآلية للعمل وكفلسفة أيضا ً. فالنظام العلماني في ظل الديمقراطية، أي فصل السلطات، يضمن للكل ممارسة عقائدهم بعيدا ً عن إدارة الدولة والتي لابد أن تكون كإدارة أي مؤسسة أخرى، حيث تعتمد على العلم والمعرفة والتجربة من خلال مايسمى بالتكنوقراط.
ولكن، هل مسموح لرجل الدين أن يمارس السياسة! بالتأكيد نعم، فحق من حقوق أي مواطن هو المشاركة السياسية، بغض النظر عن عقيدته، ولكن، ليس بشروط المؤسسة الدينية بل بشروط الديمقراطية من خلال الإيمان بالتعددية وحرية التعبير وحرية الإعتقاد. إن هذا هو الضامن الوحيد لإنشاء مجتمع مدني قائم على روح المواطنة. فمن خلال الديمقراطية يمكن حتى للحزب الديني أن يمارس السياسة كباقي الإحزاب المسيحية في أوربا بشرط أن لايكون الخطاب الحزبي خطاب أصولي إستاصالي، بل يدخل الفضاء العام من خلال الحوار العقلي المتكافئ، كما يقول هابيرماس، أو حتى التنافسي، على حد قول نانسي فراسر، والقبول بالحد الأدنى من التوافق مع الفرقاء. هنا نحن أما علمانية لاتفصل الدين عن الدولة فحسب، بل تعيد تنظيم العلاقة بين الدين والدولة بطريقة تحفظ حقوق الأفراد والمجموعات بعيدا ً عن سطوة الدين والدولة معا ً. بهذه الشروط، هل يمكن أن يتوافق الدين الإسلامي مع العلمانية؟ هذا ما سأتناوله في المقال القادم.
- آخر تحديث :
التعليقات