لقد كتبت في المقال السابق (الدين في حماية النظام العلماني) بأن وضيفة النظام العلماني ليست حماية الدولة من المؤسسة الدينية فحسب، بل من أجل حماية المؤسسة الدينية من الدولة أيضا ً. فإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني بأن العلمانية مع الديمقراطية مطلب ملح لمجتمعاتنا التي يُستغل بها الدين ويُوضف من قبل الحاكم والحزب والأيدلوجية، حتى لو كانت أيدلوجية إسلامية، لخدمة مصالح فئة معينة، أو حزب واحد، أو فرد واحد. ولكن، هل يتوافق الفكر الإسلامي مع العلمانية كنظام أو إطار قانوني ينظم العلاقة بين الدين والدولة، أذا مافهمنا بأن العلمانية هي ليست فصل الدين عن الدولة فحسب، بل هي نظام يعيد تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، كما أوضحت في المقال السابق.
قبل الخوض بموضع التوافق بين الإسلام والنظام العلماني، هناك سؤال لابد من طرحه وهو: هل هناك إسلام واحد موحد في العقيدة والفقه والأخلاق، أم أن هناك أكثر من فهم وتصور للإسلام تبعا ً للزمان والمكان؟ بالتأكيد لايوجد إسلام واحد بل تصورات تختلف وتصتدم فيما بينها أحيانا ً حول حقيقة موضوعية واحدة، كالإختلاف في تحديد أول يوم للعيد أوأول يوم من شهر رمضان. فهناك بالتأكيد الكثير من الفرق والطوائف الإسلامية المختلفة. سوف أختصر تلك التصورات الإسلامية حول العلمانية في ثلاث مجموعات، الأولى وهو التصور السلفي الذي يرفض العلمانية جملة وتفصيلا، والثاني هو التصور المعتدل الذي لايمانع في تطبيق النظام العلماني مالم يصتدم بمبادئ الشريعة الإسلامية، والثالث هو التصور الليبرالي الذي يرى من الواجب تطبيق العلمانية بإعتبارها تحفظ الحقوق والحريات الفردية والتي تنسجم مع التوجه الليبرالي وهي البوابة للدخول في عصر الحداثة. سأناقش في هذا المقال التصورين الأول والثاني بإعتبار أن التصور الثالث قد تجاوز إشكالية العلمانية. أما بالنسبة للشيعة فهم على قسمين، الأول وهو الذي يؤمن بالدور السياسي للدين، كنظرية ولاية الفقيه في ايران، حيث لامكان للعلمانية في هذا القسم، أما القسم الثاني فلايتدخل بالسياسة ولايدعوا لدولة دينية في الوقت الراهن فهو يقبل العلمانية للحد الذي لاتصتدم به مع مبادئ الدين.
أن التصور السلفي يرفض رفضا ً قاطعا ً العلمانية ويعتبرها كفرا ً وإلحادا ً، بل يرفض القيم الغربية الأخرى كالديمقراطية وحرية الإعتقاد والأديان. يعود هذا الرفض وتلك القطيعة، حسب رأي اولفر روي والباحث طلال أسد لسببين رئيسيين، الأول وهو أن القيم الغربية ومنها العلمانية ترتبط إرتباطا ً وثيقا ً بالثقافة المسيحية وبتجربة الإستعمار، أما السبب الثاني وهو أن القيم الغربية ومنها العلمانية طبعا ً ليس لها جذور أو أصول في كتب التراث الإسلامي كالقرآن والسنة. أضف إلى ذلك بأن الإسلام السياسي السلفي له تصوره الخاص به عن مفهوم الدولة التي لابد أن تكون على شكل الخلافة الإسلامية حيث لايوجد فصل بين الدين والدولة.
أما التصور المعتدل فهو يقبل بالقيم الغربية ومنها العلمانية مالم تختلف مع الشريعة الإسلامية. من هنا لابد من الذكر بأن فكرة تطابق الأفكار الغربية، وبالخصوص الليبرالية منها مع الشريعة فيها الشيء الكثير من عدم الوضوح. إن السؤال المهم هو، هل هناك شريعة موحدة لكل الطوائف الإسلامية، وإن كانت كذلك فهل هي ملزمة في كل زمان ومكان؟ الجواب بالتأكيد أنه ليس هناك شريعة موحدة مما يجعلها موضوعا ً مثاليا ً أكثر منه واقعية، على رأي روي. أما التغيير في الشريعة فهو وارد، ولما لا إذا مافهمنا بأن القران غير الكثير من الأحكام النازلة مجاراة للواقع بصيغة الناسخ والمنسوخ. إذن، لابأس من التجديد بالشريعة مادام المبدأ الأساسي هو أن الواقع الذي يفرض التغيير تبعا ً للمصلحة العامة، وقد تجاوزت الكثير من الفرق الإسلامية ذلك من خلال فتح باب الاجتهاد، كالشيعة مثلا.
وعلى هذا الأساس لايوجد مانع من قبول النظام العلماني بالنسبة للإسلاميين المعتدلين إذا ما فهمنا بأن اغلب القيم الغربية تلتقي مع القيم الإسلامية في المبدأ، كحرية الإعتقاد (لا إكراه في الدين)، وحرية الأديان (لكم دينكم ولي دين)، والتعددية (خلقناكم شعوبا ً وقبائل )، ومبدأ الديمقراطية (إني جاعلك في الأرض خليفة)، إذا مافهمنا بأن النبي محمد صار ولي أمر المسلمين ليس بأمر من الله فحسب، بل من خلال قبول الناس به وبيعته في العقبة الأولى والثانية، فهو ليس مسلطا ً على رقاب الناس بل حكم برضاهم، وإلا مالسبب الذي يجعله يطلب بيعتهم، وأخيرا ً في حديث للنبي محمد (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) والذي يدعوا لعمل كل فرد في مجال إختصاصه. إذن، لاتوجد أشكالية من الناحية المبدئية في قبول العلمانية من الناحية الإسلامية كنظام ينظم العلاقة بين الدين والدولة، إذا مافهمنا بأن أغلب الدول الإسلامية تحكمها أنظمة علمانية على مدى العصور على حد قول روي. ولكن، كيف يمكن فصل الدين عن الدولة من الناحية العملية، وهل يشبه النموذج الإسلامي المسيحية بإنفصالها عن الدولة بشيء؟ هذا ما سأتناوله في المقال المقبل.
- آخر تحديث :
التعليقات