ظلمني بعض قرائنا كثيرا حين اتهموني بتأييد التقسيم والدعوة إليه والتساهل مع فرسانه الميامين. أبدا لم أقل، ولا في أي مقال، إنني مع تقسيم العراق. بل أنا ألح، دائما وأبدا، على ضرورة تجنيب الشعب العراقي مزالق التقسيم وإنقاذه من كوابيس التشتت والتفتت ومن مخاطر الحروب الأهلية الصغيرة والكبيرة معا، وذلك بالعودة إلى الوطنية النقية البعيدة عن الطائفية والعصبية القومية والمحاصصة، وبتأسيس حكم ديمقراطي علماني لا يتحكم به صاحب عمامة ولا عقال، بل مواطنون (عراقيون أولا) قبل أن يكونوا عربا أو أكرادا، مسلمين أو مسيحيين، صابئة أو يهودا أو حتى بلتكيشيين، شيعة أو سنة، من الرمادي أو تكريت او الناصرية أو كربلاء.

الدين موجود فقط في الجامع والحسينية والكنيسة. والعشيرة، على العين والراس، ولكنْ في خيمة شيخ العشيرة أو ديوانه، وحسب. أما الدولة فهي حرة مطلقة الجناح من أي تأثيرات دينية أو طائفية أو عشائرية أو مناطقية، يتبوأ موظفوها وظائفهم على أساس الكفاءة والخبرة والأمانة والنزاهة، فقط لا غير.

سيقول كثيرون إنني أحلق في فضاءات خيالية مستحيلة. ربما. ولكنَّ شعوبا أخرى، أقلَّ منا ثقافة وحضارة وثروة، فعلتها، وحولت أوطانها من دول فاشلة فقيرة جاهلة متقاتلة فيما بين طوائفها وعشائرها ومناطقها إلى دول متحضرة ثرية تجاوزت نسبة المتعلمين من أبنائها ثمانين بالمئة، وصار أغلب أبنائها أصحاب مصانع وشركات وبنوك. فعلت ذلك بالعلمانية، وبالعلمانية أولا وأخيرا، ولا شيء غير ذلك.

وأمامكم هذا الرجل الشريف مهاتير محمد وقد حول شعبه من مجاميع جاهلة مشغولة بالبخور والسحر والبكاء على القبور إلى قوة علمية واقتصادية خطيرة لها يد طولى في صياغة مصير المنطقة، وصوت محترم ومسموع في عالم القوة والصناعة والمصالح المتبادلة. ثم ترك الحكم لغيره ولم يَعضَّ عليه بأسنانه، ولم يُسل الدماء دفاعا عن حقه الإلهي في كرسي الرئاسة، ولم يطره منه بالقوة. بل خرج مكرما وظل يسير في شوارع مانيللا رافع الرأس، ومواطنوه يهرولون للسلام عليه وتقبيل جبينه اعترافا بفضله ونبله ودينه الإسلامي الصحيح.

الحقيقة أن المشكلة العراقية ليست في أنني مع التقسيم أو ضده، بل في أن التقسيم قادم لا محالة مادام حكام الوطن من خامة نوري المالكي وأياد علاوي وصالح المطلق وأسامة النجيفي وحيدر العبادي وسامي العسكري وحيدر الملا.

المشكلة العراقية تتركز في سؤال واحد مهم، هل إن من يمثلون الطائفة الشيعية في سلطة المحاصصة والشراكة الوطنية والموائد المستديرة يمثلونها بجدارة وإخلاص ونواهة أم لا، وهل إن من يمثلون الطائفة السنية يمثلونها بجدارة وإخلاص ونزاهة أم لا، وهل إن من يمثلون الأكراد يمثلونهم بجدارة وإخلاص ونزاهة أم لا؟؟

وفي ضوء جوابنا على هذه التساؤلات المريرة المزعجة يتعين علينا أن نقرر، هل إن العراق القادم يمكن أن يعود عراقا واحدا، وهل إن شعوبه المتنوعة المتعددة ربما تصبح شعبا واحدا متفاهما ومتناغما ومتعاونا ومتساهلا بعضه بعضه مع بعض، أم سيكون عراقا ممزقا، مفتتا، مقسم الولاءات، منهوب الثروات، مغشوش الديمقراطية والبرلمان والرئاسات والوزارات.

يقول لي صديق سياسي عراقي شريف إن كتاباتي مُحبطة للآخرين، وإنني كاتبٌ سلبيٌ أشخص الداء ولا أصف الدواء.
هذا ممكن. فقد أكون، فعلا كذلك، مثل جهاز تصوير شعاعي في مستشفى يقوم بتصوير الأحشاء والعظام والأوردة والشرايين، وهذا كل المطلوب منه وهذه وظيفته، ويترك للطبيب المعالج مهمة وصف الدواء. لكنني، في كل ما كتبته في كل حياتي، وما فعلته، لم أحلم إلا بوطن عاقل وعادل، كما هو حال أي وطن آخر في القرن الواحد والعشرين، لا يدين إلا بالحق والعدل والمساواة وحقوق الإنسان، فيُعطي كل مواطن حقه، بالتساوي، في الكرامة والحرية والعمل. وأعلم أن هذا الحلم العصي لا يمكن أن يتحقق إلا بالعلمانية، وبالديمقراطية.

كما لا يمكن للعلمانية والديمقراطية أن تتحققا في العراق اليوم إلا بطرد هؤلاء المنافقين المراوغين الغشاشين، وإلا بإسقاط نظام المحاصصة بالكامل، وتكليف حكومة مؤقتة محايدة تكنوقراطية نزيهة تتولى إدارة الوطن لفترة محددة تقوم خلالها بإعداد دستور مصحح ومعدل ومنظف من السم القليل الذي دُس في عسله الكثير، ثم تُجري انتخابات نزيهة بمراقبة دولية (وليست أمريكية ولا إيرانية فقط)، ثم تسلم السلطة للحزب الذي يفوز بالأغلبية، حتى لو كان حزبا خارجا على القانون.
الفرصة متوفرة. ويستطيع أبناؤنا وإخوتنا الشباب الجدد الأحرار الذين يتظاهرون كل يوم جمعة في ساحة التحرير أن يُسقطوا من شعاراتهم مواضيعَ البطالة والماء والكهرباء، ويرتفعوا إلى مطلب واحد دون سواه، وهو انتخابات مبكرة قبل موعدها.

فلن يحرر الشعوب إلا أحرارها. وعلى قدر الشرائح الشجاعة التي تتخلص من أسْر رجل الدين، ومن سطوة رئيس العشيرة، يكون نصيبنا من غد أفضل وأجمل وأكثر أمنا وسلاما وعدالة.

والشيء السار أن الوقائع والقرائن كلها تؤكد أن جماهير عراقية واسعة، من كل الطوائف والقوميات والديانات، غيرت قناعاتها، وصارت أقرب إلى الاقتناع بأن أحزاب الدين السياسي وأحزاب القومية الفاشية المتعصبة هي أساس خراب البصرة والرمادي والنجف وأربيل، وأن الوطن لا يمكن أن يصبح وطنا يليق بالبشر إلا بطرد هؤلاء الساسة، وإحالتهم إلى القضاء العادل، ومحاكمتهم على ما أهدروه من أعمارنا، وما سفحوه من دماء إخوتنا وأبنائنا، وما سرقوه من ثرواتنا، وما داسوا به على كراماتنا وما زالوا يدوسون.
إنني هنا لست سياسيا أبحث عن شعبية وعن أصوات في انتخابات قادمة، ولا تاجرا أريد من الحكومة العلمانية التي أطالب بقيامها أن تُسهل تجارتي. بل أنا عراقي حتى العظم، ولو كنت متغربا، لا أحلم إلا بوطن أستطيع أن أزوره (في السنة مرة)، وأنا آمن، وغير خائف لا من مخابرات نوري المالكي، ولا من مجاهدي جيش المهدي، ولا من بقايا حزب البعث وأهل العوجا، ولا من هذا الجيش الإسلامي ولا من تلك المنظمة التي تدعي مقاومة الاحتلال، وهي منها براء.

أما النجيفي وتهديده بالانفصال وتلويحه بالإقليم السني فليس لدي ما أقوله عنه سوى أنه مسكينٌ مغلوبٌ على أمره، كلفه أعمامُه بأن يهش بهذه العصا الطائفية الغليضة على نوري المالكي وعلى إيران.

فالإقليم السني المطلوب، إذا تحقق، لن يكون سوى سكين في خاصرة إيران، وجدار إسمنتي قوي يكسر ظهرها ويقطع جسرها الممتد عبر العراق إلى سوريا ثم إلى لبنان.
إنه إعلان تجاريٌ مدفوع الثمن مقدما، وفقاعة لن تلبث أن تنفجر وتتفتت وتضيع في الهواء.

الحزن الكبير ليس بسبب هذه الطائفية الصارخة التي أظهرها النجيفي، ولكنه بسبب هذا الخلل الأخلاقي المهين الذي جاءت به المحاصصة. فهذا الرجل الذي أجلسته الشراكة الوطنية على كرسي رئاسة البرلمان ليقود ممثلي أهل العراق جميعا داخل هذه القبة المقدسة لدى كل شعوب الأرض والسماء، يخون وظيفته، ويخالف قسَمه الذي باشر به الوظيفة. إنه أثبت أن الأعوج أعوج حتى ولو وُضع في قالب من حديد.

الخلاصة التي لابد من القول بها هي أن مِلة ً متعددة الأجناس والأقوام والطوائف والأديان مثلَ الملة العراقية لا يصح حكمها ولا يستقيم أمرُها بدكتاتورية العقيدة الواحدة أو الطائفة الواحدة أو القومية الواحدة أو الدين الواحد، بل بنظام علماني ديمقراطي لا سلطة فيه غير سلطة القانون. مع الاعتذار لنوري المالكي الذي أسمى شلته بـ (دولة القانون).
فهل، ومتى، يسمح لنا المتحاصصون المتشاركون في الغنيمة الواحدة بأن نزيحهم من طريقنا بالتي هي أحسن، لكي نبدأ بإعادة بناء العراق الحر؟ علم ذلك عند ربي.