عبدالله المدني

كتبت مؤخراً عن الإنتخابات التايلاندية الأخيرة، وأتابع هذا الأسبوع الكتابة في الشأن ذاته على ضوء ما استجد من معلومات، لكن من زاوية المقارنة مع الشأن البحريني.


قد لا تكون المشتركات ما بين تايلاند والبحرين كثيرة، فالأولى كبيرة نسبياً ويسكنها أكثر من 60 مليون نسمة، ودشنت عمليتها الديمقراطية في 1932، ويقوم اقتصادها أساساً على السياحة والخدمات والتصدير إلى الخارج، فيما الثانية بلاد صغيرة مساحة وسكاناً، ومتواضعة في مواردها الطبيعية، وذات اقتصاد ريعي، وتركيبة سكانية منقسمة طائفياً.

غير أن في كلا البلدين مظاهر تنموية لا تخطئها العين وبنى تحتية ومرفقية متينة. كما أن كلا البلدين شهدا مؤخراً تجربة غير مسبوقة في تاريخهما، كادت أن تدمر كل ما بنته السواعد الفتية على مدى عقود.

فتايلاند، التي بزت دولًا آسيوية أخرى في كل شيء تقريباً، شهدت في عام 2009 اضطرابات سياسية وأعمال عنف، وذلك حينما قاد quot;ذوو القمصان الحمراءquot; من أتباع رئيس الحكومة المخلوع quot;تاكسين شيناواتراquot; تمرداً شعبياً ضد الحكومة والجيش. وكانت النتيجة أن تضرر اقتصاد البلاد بشدة. لكن الضرر الاقتصادي لم يكن ليقارن بما حدث على صعيد تمزق اللحمة الوطنية، وانقسام المجتمع التايلاندي، المعروف بالوداعة والتسامح، إلى معسكرين: ذوو القمصان الحمراء الموالون للمعارضة والمنحدرون من الأرياف الفقيرة، ممن لا يحتكمون إلا على قدر متواضع من العلم والمعرفة، وذوو القمصان الصفراء المؤيدون للحكومة والملك، وجلهم من الكوادر المتعلمة من سكان الحواضر والمدن.

وكحل لإخراج البلاد من العنف السياسي وتقليص الهوة ما بين المعسكرين المذكورين، تحملت مؤسستا الجيش والبلاط الملكي مسؤوليتهما، وقادتا على مدى ثلاثة أشهر حواراً سرياً مع رموز المعارضة في الخارج، (أي على عكس حوار التوافق الوطني الجاري حالياً في البحرين). ولأن الحوار السياسي يقوم عادة على تبادل التنازلات، وليس على المواقف المتخشبة، فإن المعارضة التايلاندية وافقت على التهدئة من أجل خلق مناخ نموذجي لإجراء انتخابات برلمانية، وعلى أن لا يتبع وصولها إلى السلطة قيامها بأعمال انتقامية أو كيدية ضد قوات الجيش التي قمعت أنصارها بوحشية، وقتلت منهم ما لا يقل عن 91 شخصاً، وجرحت نحو 1500 فرد. ولا نريد هنا الاستطراد، لأن بقية القصة معروفة.

لكن من الأهمية بمكان أن نتوقف عند حقيقة أن المعارضة لعبت دوراً مهماً في تميز انتخابات الثالث من يوليو بالهدوء، والابتعاد عن التأجيج والتحريض، وإطلاق شعارات التخوين أو طرح المطالب التعجيزية! وبعبارة أخرى، فلا المعارضة سلت أسلحتها وأجهزتها الدعائية لتخريب العملية الانتخابية أو ازدرائها أو التشكيك في نزاهتها، ولا الحكومة ومؤسسة الجيش تآمرتا عليها بالتزوير وشراء الأصوات.

على أن الأهم مما سبق هو الطريقة المتحضرة، التي تعاطى معها الشعب والحكومة ومؤسستا الجيش والبلاط، مع نتائج الانتخابات التي اكتسحتها المعارضة بفارق كبير عن الحزب الديمقراطي الحاكم بقيادة رئيس الوزراء quot;أبهيسيت فيجاجيفاquot;. فالأخير أقر بهزيمته فوراً، وقدم التهاني لمنافسته quot;يينجلوك شيناواتراquot;، بل أعلن لاحقاً مسؤوليته عن تلك الهزيمة، وتقدم باستقالته كزعيم لحزبه، مثلما يفعل كل الديمقراطيين حينما يفشلون، طالباً من زملائه أن يبحثوا لهم عن قائد جديد. أما السيدة quot;شيناواتراquot; فلم تظهر عليها نوازع الغرور والانتقام في خطابها الأول للتايلانديين، بل على العكس من ذلك، قدرت لخصمها إدارة البلاد في quot;ظروف صعبةquot;، وأكدت على ضرورة نسيان الماضي، والعمل من أجل المصالحة الوطنية. وأما الجيش المعروف بانقلاباته وتدخلاته المتكررة في الحياة السياسية، فإنه هو الآخر قبل بنتائج الانتخابات، ووعد بعدم التدخل في أعمال الحكومة المدنية. والشيء نفسه يمكن قوله عن رد فعل أنصار الحكومة والملكية الذي تميز بقبول النتائج، وعدم الانجرار وراء هواة التصعيد والتخريب.

فإذا تحدثنا عن البحرين فسنجد أنفسنا أمام مشهد مختلف تماماً. ففيها تجربة ديمقراطية وليدة، لم يمض عليها سوى عشر سنوات، ورغم ذلك غيرت وجه البلاد كلياً. ونجد تجليات ذلك في وضع دستور جديد من بعد التصويت الشعبي الكاسح على quot;ميثاق العمل الوطنيquot;، وتبييض السجون من معتقلي الرأي، والسماح بعودة كافة المبعدين، وإطلاق حرية العمل السياسي والتظاهر والاعتصام السلميين، وإلغاء قانون أمن الدولة الذي كان يحاسب الناس على آرائهم بل وينفيهم إلى الخارج، والترخيص للعمل النقابي وتأسيس منظمات المجتمع المدني (ارتفع عددها في غضون سنوات قليلة إلى أكثر من 500 منظمة). إلى ذلك تجلت العملية الإصلاحية في قيام برلمان منتخب ومجلس شورى مطعم بذوي الكفاءات وممثلي الأقليات الدينية والعرقية، وإجراء انتخابات بلدية أعطت حق الاقتراع لأول مرة للوافدين، انطلاقا من مفهوم أن الخدمات البلدية حق لكل السكان وليس للمواطنين فقط. وفيما يتعلق بالشق الأخير فإن البحرين سبقت المغرب بعشر سنوات، حيث لم يتطرق المشّرع المغربي إلى هذا الحق إلا مؤخراً حينما طُـرح دستور جديد للاستفتاء، وهو ما أغفل ذكره كاتب كويتي مرموق في معرض إشادته بالإصلاحات السياسية المغربية في مقال كتبه مؤخراً.

وما بين هذا وذاك شهدت البحرين لأول مرة إنشاء المحكمتين الدستورية والرقابية، وتأسيس مجلس أعلى لشؤون المرأة ومنظمة وطنية لحقوق الإنسان، ووضع ضوابط قضائية لطرق الدهم والاعتقال والاستجواب والتحقيق.

الغريب أن كل هذا لم يمنع قوى المعارضة المحلية من الادعاء بأن الإصلاحات كانت quot;شكليةquot;، على الرغم من مشاركتها فيها، وقطف رموزها لأكبر قدر من ثمارها، مناصب ورواتب ومخصصات ورحلات مجانية. وياليتها اكتفت بذلك فحسب، إنما دفعها غرورها ورؤيتها القاصرة وأجندتها الخفية إلى الانزلاق نحو التصعيد والتخريب، والمطالبة برحيل الأسرة الحاكمة وإعلان الجمهورية، مستنسخة ما حدث في دول عربية أخرى، لامجال إطلاقا لمقارنتها بالبحرين في الجوانب الديمقراطية والمعيشية والحقوقية والتنموية. وهكذا شهدت البحرين في فبراير ومارس الماضيين أفدح حوادث تخريبية في تاريخها المعاصر، وبما أدى إلى انقسام طائفي بغيض للمرة الأولى في مجتمع عرف على الدوام بتعدديته وتسامحه وتصالحه.

أما الأغرب، فهو أن من ارتكب تلك الحوادث بحق وطنه لا يزال يكابر، ولا يعترف بأخطائه، ويتمسك بمناصبه الحزبية رغم شعاراته الديمقراطية، بل وصار يشكك منذ الآن في نتائج الحوار الوطني ويهدد بالتصدي لها إنْ لم تأتِ على قياسه.

د. عبدالله المدني

باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين

[email protected]