محمد الصياد

هي ليست فضيحة عادية من ذلك النوع من الفضائح التي يحفل بها مجتمع الطبقة الأوليغارشية والزعامة السياسية والفكرية المحيطة بها التي تحكم بالنيابة عنها في بلدان المركز الرأسمالي . إنها فضيحة تعادل في دَوِيّها الإعلامي (رغم محاولات هذه الطبقة تقليصه إلى الحد الأدنى)، وحجمها وخطورتها فضيحة ldquo;ووتر غيتrdquo; التي تجسس بموجبها الجمهوريون على الديمقراطيين في الولايات المتحدة، وانتهت بإطاحة الرئيس الأمريكي الجمهوري ريتشارد نيكسون من منصبه .

فعلى مدار سنوات طوال تمكن ldquo;تايكونrdquo; الإعلامي العالمي روبرت مردوخ من خلق نوع من الإعلام الخاص في بريطانيا أطلق عليه ldquo;صحافة التابلويدrdquo; (Tabliod Jouranalism)، وهي الصحافة التي تركز على الإثارة المتصلة بالجرائم وفضائح نجوم المجتمع من ساسة ورياضيين وفنانين، وتتخذ حجماً مصغراً أو مضغوطاً قياساً إلى الحجم الطبيعي للصحف البريطانية السيّارة، وإن كان حجم صحيفة محترمة مثل صحيفة ldquo;الإندبندنتrdquo; يجعلها من حيث الحجم فقط تنتمي إلى طائفة صحافة التابلويد . كما تمكن هذا القطب الإعلامي الأسترالي المولد بوساطة ldquo;أدوات السيطرةrdquo; والتدليس الإعلامية، من إنشاء إمبراطورية أمنت لنفسها موقعاً أهّلها وأهّل مالكها لأن يكون لهما نفوذ وتأثير مباشر وغير مباشر ليس فقط على دوائر صناعة القرار في بريطانيا، وإنما على تشكيل وتوجيه الرأي العام في بريطانيا وخارجها .

نعم لقد أدى ldquo;خطأ بشريrdquo; إلى كشف جانب من هذه المافيا الإعلامية الأخطبوطية، وذلك بقيام الصحافي السابق للشؤون الفنية في صحيفة الفضيحة ذاتها ldquo;نيوز إنترناشيونالrdquo; التابعة لإمبراطورية مردوخ ldquo;نيوز كوربrdquo;، شون هور، بإطلاع هيئة الإذاعة البريطانية على أن رئيس التحرير السابق للصحيفة أندرو كولسون طلب منه التنصت على الهواتف، قبل أن تتم إقالة الصحافي المسرّب للفضيحة بزعم إفراطه في الكحوليات وتعاطي المخدرات، ومن بعد العثور على جثته ميتاً في شقته، واعتبار الشرطة البريطانية الوفاة عادية ولا تنطوي على أية شبهة .

. .نقول صحيح أن الكشف عن الفضيحة قد وقع وأحدث صدمة في بريطانيا أجبرت رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كاميرون على قطع زيارته إلى إفريقيا والعودة إلى لندن لمقابلة تحديات الفضيحة، إلا أن تداعيات الكشف المتواتر عن ملابسات الفضيحة والتحقيقات الجارية بشأنها تشي بأن المخفي أعظم، وأن الأصل في هذه التحقيقات هو إنهاؤها عند الحدود الحصينة والمصونة ldquo;للسيستمrdquo; .

لنُلقِ أولاً نظرة سريعة على بعض ملابسات هذه الفضيحة:

قيام رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بتعيين أندرو كولسون رئيس التحرير السابق في صحيفة ldquo;نيوز أوف ذي وورلدrdquo; المتورط في فضيحة التجسس على الهواتف، في منصب مدير الاتصالات في حكومته .

قيام نيل واليس نائب رئيس تحرير صحيفة ldquo;نيوز أوف ذي وورلدrdquo; السابق الذي ألقي عليه القبض في الفضيحة، بإسداء النصح بصورة ldquo;غير رسميةrdquo; للمستشار الإعلامي لديفيد كاميرون . وكان قائد شرطة اسكوتلنديارد عيَّن واليس مستشاراً .

قيام المحكمة بإطلاق سراح أندرو كولسون ونيل واليس بكفالة .

حسب تقديرات الشرطة، وهي مخفضة، على ما يبدو من الملابسات حتى الآن، فإن 4 آلاف شخص، بينهم أفراد من الأسرة المالكة، استهدفتهم عمليات التنصت .

بعد يوم واحد من استقالة قائد شرطة لندن، قدم جون تيس مدير مكافحة الإرهاب في اسكوتلنديارد استقالته من منصبه، بعد لومهما على ما أظهراه من تقاعس عن التحقيق في فضيحة تنصت صحيفة ldquo;نيوز أوف ذي وورلدrdquo; على المكالمات الهاتفية .

وقبل هذا كان روبرت مردوخ قد اتخذ قراراً بإغلاق صحيفة ldquo;نيوز أوف ذي وورلدrdquo; التي ظلت تصدر على مدار 168 عاماً، بهدف امتصاص غضب الرأي العام على جريمة التنصت التي تورطت فيها الصحيفة .

وأخيراً وليس آخراً، العثور على جثة مفجر هذه الفضيحة ميتاً في شقته حسبما أسلفنا ذكره .

ولأن المتورطين في الفضيحة كثيرون، بمن فيهم ممثلو النخبة الحاكمة، فقد كان لا بد من أن تجد طريقها إلى مجلس العموم الذي استجوب رئيس الحكومة يوم الأربعاء 20 يوليو/تموز ،2011 حيث مَثُل ديفيد كاميرون أمام المجلس لشرح وقائع وملابسات الفضيحة . وكما كان متوقعاً فقد جاء خطاب كاميرون أمام المجلس خطاب علاقات عامة حافلاً بالتخرصات والتبريرات وحتى الاعتذارات الدبلوماسية الماكرة المستبقة، لتكشف مزيداً من الحقائق، مع الحرص على التأكيد بعدم علمه بما جرى . وكان روبرت مردوخ وابنه جيمس قد مثلا قبل ذلك بيوم واحد أمام لجنة استماع في مجلس العموم لاستجوابهما بشأن الفضيحة، حيث كان التملص والمراوغة عنوان ذلك الاستجواب . رئيس الحكومة ديفيد كاميرون لم يرد بصورة واضحة على سؤال أحد النواب له عن صلة حزبه (حزب المحافظين) بإمبراطورية قطب الإعلام روبرت مردوخ (حيث عيّن كاميرون كما قلنا أندرو كولسون رئيس التحرير السابق في صحيفة ldquo;نيوز أوف ذي وورلدrdquo; المتورط في الفضيحة، في منصب مدير اتصالاته) . كاميرون قال إنه آسف على هذا ldquo;الخطأrdquo;، وإنه ما كان يتوجب عليه توظيفه لو كان يعلم بحقيقة أمره، وإذا تبين كذب كولسون بخصوص عدم معرفته بجريمة التنصت، فإنه سوف يقدم للبرلمان ldquo;اعتذاراً عميقاًrdquo; (ما شاء الله) .

كما هو واضح، فإنه وبرغم فداحة الأمر وخطورته التي تتجاوز وقائع جريمة التجسس على الناس، ورغم تشعب الجهات المتورطة فيها من زعامات سياسية ودوائر أمنية وأجهزة إعلام، ورغم ما كشفت عنه الفضيحة من تأكيد لصحة الاتهامات التي ظلت توجه إلى مردوخ وإمبراطوريته الإعلامية من أنهما قد حرفا الإعلام البريطاني عن مساره، من إعلام تنويري وتثقيفي، ومن سلطة موازية للسلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، تسهم بقسطها في حماية الدولة والمجتمع وقائياً من أية تعديات وأضرار نتيجة للانحرافات الغريزية للسلوك البشري . . إلى إعلام إثارة يختلط فيه السمين بالغث الموجّه تركيزاً على مشاهير السينما وكرة القدم ونجوم المجتمع .

كيف لا يكون ذلك وقد تصدر روبرت مردوخ وإمبراطوريته الإعلامية الحملة التسويقية لمشاركة بريطانيا في الحرب الأمريكية على العراق، وكذلك حملة الدفاع الشرس عن الكيان الصهيوني وعن جرائمه، وحملة التسقيط والتشهير بالقضية الفلسطينية . ثم لا ننسى أنه صانع الملوك كما يقال . وأي ملوك؟ مارغريت تاتشر وتوني بلير وجورج بوش .

بالعربي الفضيح ldquo;الرجل واصلrdquo;، فهو عضو أصيل في ldquo;السيستمrdquo; الآخر غير المرئي . ولذلك لم يكن كلامه عبثياً عندما صرح في أعقاب استجوابه في مجلس العموم على خلفية الفضيحة إياها، ldquo;سوف تخرج إمبراطوريتي من هذه الأزمة أكثر قوةrdquo; .

تماماً كما خرج توني بلير مثل ldquo;الشعرة من العجينrdquo; من لجنة التحقيق في ملابسات القرار الذي اتخذه بلير حين كان رئيساً للوزراء، بمشاركة بلاده في الحرب على العراق .