شريف عبدالغني

بداية سنوات حكمه، كان الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك يلقي خطابا، وخرج خلاله ببعض العبارات بعيدا عن النص الرسمي. حينما جاءت سيرة العقيد معمر القذافي على لسان بعض الحضور، فوجئ الجميع أنه يشير بيده اليمنى بحركات دائرية نحو دماغه، بما يعني أن العقيد laquo;مجنونraquo; وذلك في استعارة مصورة لمقولة الرئيس الراحل السادات الشهيرة التي أطلقها بحق القذافي laquo;الواد المجنون بتاع ليبياraquo;. إشارة مبارك جعلت مستمعيه يغرقون في الضحك مع عاصفة تصفيق اعتادوا إطلاقها تأييدا لآراء أي حاكم أو مسؤول.
لكن في عام 1989 عاد الدفء إلى العلاقات المصرية-الليبية، وانقلبت إشارات مبارك إلى أحضان للقذافي، وتحولت عواصف التصفيق والتأييد لاتهام laquo;العقيدraquo; بالجنون إلى غارات ترحيب به في laquo;بلده الثانيraquo;، والإشادة بمواقفه القومية. لكن يبدو أن القبلات بين laquo;سيادة الرئيسraquo; المخلوع و laquo;الأخ قائد الثورة laquo;الذي هو على وشك الخلع، لم تذب ما في القلوب، وأن اتهام الأول للثاني بالجنون في خطاب علني ظل غصة في حلق laquo;الزعيم الأمميraquo; انتظر اللحظة المناسبة حتى يرد الإهانة لمبارك بضربة قاتلة.
الرأي الحقيقي البعيد عن المجاملات لـقائد laquo;الجماهيرية العظمىraquo; في الرئيس المخلوع معروف للدائرة المقربة من الزعيم الليبي، فبحسب عبدالمنعم الهوني، عضو مجلس قيادة ثورة الفاتح من سبتمبر الذي انشق عن laquo;الأخ القائدraquo; وانضم للمجلس الانتقالي الذي شكله معارضوه، فإن القذافي كان يضحك ويقول عن مبارك إنه laquo;تقدَّمَ في السن وخرّف، وأن مصر تعيش بلا قيادةraquo; (الحياة اللندنية-23 فبراير2011). لكن يبدو أنه ظل نحو عقدين من الزمان يفكر في كيفية الرد على مبارك على الملأ، ولأن laquo;ملك ملوك إفريقياraquo; يملك من الذكاء الذي جعله يتحدى بطل العالم في الشطرنج خلال المباراة التاريخية التي جرت مؤخرا في laquo;باب العزيزيةraquo; تحت أصوات قصف قوات laquo;الناتوraquo;، فقد وجد أن أكبر وصمة عار يلصقها بمبارك ليست أن يسبه، بل أن يمدحه ويتغزل في مزاياه أمام أمة لا إله إلا الله. يدرك laquo;القائدraquo; جيدا أن سمعته العالمية أصبحت في الحضيض بعد إعلانه laquo;الزحف المقدسraquo; على شعبه، وأن زملاءه وأصدقاءه الحكام وحتى الديكتاتوريين منهم راحوا جميعا يتنصلون منه، ويتبرؤون من أفعاله، ويؤكدون أن علاقتهم به سطحية للغاية، ولم تكن تتعدى الـ laquo;ميسد كولraquo; في كل مناسبة. تأكد الزعيم أن خروجه في ظل هذا التنديد الدولي به وبجرائمه ليمتدح مبارك ستكون الضربة القاصمة التي تقسم ظهر laquo;ذلك الرجل الخرف الذي سبق واتهمني بالجنونraquo;. هكذا حدث القذافي نفسه، ثم خرج على الفور بخطابه الصوتي ليؤكد أن مبارك laquo;رجل فقير ومتواضعraquo;، ويلوم المصريين الذين تعجلوا الإطاحة به. ويقول: laquo;يجب تكريم مبارك وكان من الأفضل لو ظل رئيسا لمصرraquo;.
بالفعل أتت رسالة القذافي أكلها، وراحت وسائل الإعلام المصرية، تتندر على الرئيس المخلوع، وكيف أنه لم يتلق مديحا سوى من ديكتاتور يرتكب جرائم ضد الإنسانية.
ويقولون في مصر laquo;مبارك رجل محظوظraquo;. إنهم حائرون يفكرون يتهامسون -مثل الرفاق في قصيدة نزار قباني laquo;حبيبتي من تكونraquo;- عن كيفية اعتلاء رجل محدود القدرات.. قليل الذكاء.. الأخير على دفعته في الكلية الجوية، عرش مصر. يتساءلون في جنون: كيف لموظف روتيني لم يقرأ كتابا في حياته، ولا حارب مستعمرا، ولا شارك في عمل وطني فترة شبابه، ولا انضم لحزب سياسي، ولا اعتنق فكرا، ولا آمن بإيديولوجية، ولا يملك laquo;كاريزماraquo;، أن يجلس على كرسي الفراعنة الذين جعلوا مصر سيدة العالم، ومحمد علي الذي أسس أول دولة حديثة في الشرق، وجمال عبدالناصر الذي قاد العالم العربي نحو التحرر؟!
لا يجدون إجابة على كل هذه التساؤلات سوى: laquo;الحظraquo;. لكني على العكس أؤمن أن مباركا ليس محظوظا بالمرة، بل إنه laquo;منحوسraquo; و laquo;متعوسraquo; و laquo;قليل البختraquo; حتى في المقربين منه ومحبيه ومناصريه. إن ما ظنه المصريون laquo;حظاraquo; باستمراره في الحكم 30 سنة متصلة يتمتع بنعيم السلطة ورغدها هو سوء الحظ بعينه، لأن ختامها لم يكن مسكا، بل ثورة عليه، واحتجازا و laquo;بهدلةraquo; ومحاكمة وتهديدا بالسجن في أحسن الأحوال، وربما الإعدام.
أين هو الحظ الذي يتحدثون عنه في رئيس ابتلي بمرؤوسين راحوا يوهمونه أنه عبقري عصره وحكيم زمانه وينفخون في ذاته حتى تضخم ولم يستطع تحمل laquo;شكة دبوسraquo; من مظاهرات شباب سلميين فـ laquo;فرقعraquo; وسط دهشة شعوب العالم.
هل مبارك محظوظ بمؤيدين جعلوه أضحوكة بين القادة. حولوا خطاباته وجولاته من شدة نفاقهم إلى مشاهد كوميدية تنافس مشاهد علي الكسار وإسماعيل ياسين. أثناء رئاسته لمنظمة الوحدة الإفريقية، ظن أحد أعضاء مجلس الشعب الذين اعتادوا النجاح بالتزوير أن ما حدث هو إنجاز عالمي لمبارك وتميز له عن كل رؤساء إفريقيا، وتخيل أنه أصبح حاكما لكل دول القارة السمراء، ولم يعرف أنها رئاسة دورية يتناوب عليها القادة الأفارقة سنويا، لذلك أراد العضو أن يسبق كل زملائه في تهنئة زعيمه بهذا الإنجاز، فذهب إلى ميدان التحرير وعلق لافتة ضخمة تقول: laquo;اختارتك إفريقيا رئيسا لها.. فكيف لا نختارك زعيما مدى الحياةraquo;!
كيف يعتبر مبارك محظوظا، وقد تزوج من امرأة أسهمت بقوة في سقوطه، بتدخلها في شؤون الدولة وتشكيل الحكومات وفرض وزراء من بينهم وزيرة القوى العاملة الحاصلة على الابتدائية فقط، وكل موهبتها هي إغراق يدي laquo;السيدة الأولىraquo; بالقبلات.
أين ذلك الحظ وأولاده عملوا على تحويل الدولة إلى laquo;شركةraquo; خاصة بهم، الأكبر يحلب مواردها، والأصغر يريد laquo;وراثتهاraquo; كلها. هل يعرف الحظ طريقه إليه وقد اختار محاميا أطلق مؤخرا أشهر نكتة في مصر بأن مباركا هو أول ثورة laquo;25 ينايرraquo;.
ثم الختام بصديق مثل القذافي يقول للمصريين: laquo;مبارك كان يأتي إلي يشحت العبّارات من أجلكم، ويذهب للسعودية يشحت منها القاطرات، ويشحتها من أي أحد آخر كله من أجلكمraquo;، ويتساءل: laquo;هل سيركب هو في القاطرات؟ هل سيركب هو في العبـارات؟raquo;.
أظن أن مباركا بعدما سمع كلمات القذافي قال laquo;اللهم أعني على أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهمraquo;. وأعتقد أنه أرسل رسالة هاتفية إلى laquo;الأخ القائدraquo; نصها: والله أنت مجنون رسمي.. ألا تعلم أيها الأحمق أنني لم أركب القطارت التي laquo;شحتهاraquo; من أجل المصريين لأنها تحترق بركابها، كما لم أضع قدمي يوما في laquo;عبـارةraquo; تسولتها لأنها تغرق بمن عليها!