جمال أحمد خاشقجي


التقيت قبل أيام بصديق عراقي عرفته منذ أيام الجهاد الأفغاني، اضطره صدام حسين إلى الهجرة، فاستقر في باكستان، نشط بعدها في مناصرة الجهاد الأفغاني، ولكنه اختار أن يتخصص في الإصلاح بين القادة الأفغان المتنازعين، وما أكثرهم وما أكثر نزاعاتهم. تقاطعت به الطرق بكل من مرّ على أفغانستان من أفراد ورسميين، عرف الباكستانيين وعرفوه جيداً.

قدّم لي صورة مقلقة عن الحال هناك. التطرف بلغ منتهاه، والتحدي الأكبر وفق قناعته هو وقف المواجهة بين laquo;طالبان باكستانraquo; والجيش، والتي سالت بسببها دماء كثيرة. أخبرني عن اغتيال laquo;صديق مشتركraquo; هو خالد خواجة، والشبهات تحوم حول laquo;طالبان باكستانraquo;. تعجبت، فهو متهم بالتعاطف مع laquo;طالبانraquo; والتيارات المتشددة. عرفته زمن الجهاد الأفغاني، كان ضابطاً مطروداً من الاستخبارات العسكرية الباكستانية التي كانت تدير - ولا تزال - الملف الأفغاني، ولكن خلال أيام الجهاد ضد السوفيات كانت مهامها أوسع والأموال التي تجرى بين يديها هائلة وعلاقتها الدولية متشعبة وبخاصة مع الولايات المتحدة الأميركية والسعودية. أبعدوا خواجة laquo;لتطرفهraquo; ولكنه ظل نشيطاً في مناصرة الجهاد في دائرة واسعة وضعته في تماسٍ مع حركات أخرى متشددة ومع السياسيين المحليين الباكستانيين. عرفته أول مرة أوائل التسعينات عندما كان نشطاً في التأليب ضد رئيسة الوزراء الراحلة بناظير بوتو لمصلحة منافسها نواز شريف. كانت قناعتهم أن شريف أقرب لمصلحة المجاهدين من بوتو. وآخر مرة قابلته كانت في الخرطوم في أحد اجتماعات المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي كان يرعاه الشيخ حسن الترابي في محاولة لإطلاق حركة إسلامية أممية وهذا يحتاج قصة لوحده. كان معه شيخ باكستاني غامض اسمه مبارك جيلاني الذي يتزعم جماعة من المسلمين السود الأميركيين لا تقل غموضاً، تدعى laquo;الفقراءraquo;. زرت مقرهم في أحراش على أطراف ولاية نيويورك، وما زلت حائراً في شأنهم، وإن حسمت الولايات المتحدة أمرهم بعد تردد وأعلنتهم عام 2002 جماعة إرهابية. لِمَ تختطف laquo;طالبان باكستانraquo; خالد خواجة الذي يحمل سجلاً كهذا وتقتله شر قتلة؟ الجواب وفق ما يقول صديقي العراقي، لأنه كان نشطاً في الإصلاح بين الجيش و laquo;طالبانraquo;، وهناك عناصر في laquo;طالبانraquo; لا تريد مصالحة كهذه.

بالفعل، فالمواجهات العسكرية لا تزال تستعر بين الجيش الباكستاني ومواطنيه المنتمين لـ laquo;طالبانraquo; في منطقة الحدود الشمالية، واتخذت أشكالاً قبيحة في العنف، فالعمليات الانتحارية في المساجد وضد المصلين في بيشاور وروالبندي تكاد تكون أسبوعية. هذه العمليات المخالفة للشرع والخلق انحسرت في معظم الدول الإسلامية بعدما ابتلينا بها إثر إباحتها من بعض الفقهاء للفلسطينيين في حربهم ضد الاحتلال، فاختطفت laquo;القاعدةraquo; تلك الفتوى الشاذة، ولم تكتفِ بأن أحيتها من جديد، بل نشرتها في أصقاع الأرض، وأصبحت سلاحها المميز.

هذه العمليات لم نعد نسمع عنها إلا في باكستان وأفغانستان والعراق، والحالة العراقية معروفة، فـ laquo;القاعدةraquo; تجذرت هناك بعدما برر الاحتلال الأميركي نبتتها، تداخلت مع الاستخبارات الإقليمية، والقوى المحلية، وبقايا النظام السابق وتغذت بالكراهية الطائفية.

في باكستان الصورة معقدة، ويجب أن تعترف الاستخبارات العسكرية الباكستانية بل الطبقة العسكرية الحاكمة هناك بالمسؤولية عن صناعة الوحش. في عام 1994 تبنت حركة laquo;طالبانraquo; في أفغانستان، هي حركة بشتونية ذات امتدادات في منطقة القبائل الباكستانية والمدارس الدينية هناك، وذلك لاستخدامها ضد جماعات المجاهدين الذين شبوا على طوقها. كان سلاحاً مضاءً، دمر أفغانستان ولكن أعادها إلى النفوذ الباكستاني، حتى وقعت واقعة 11 سبتمبر وما تلاها من أحداث، الحرب الأميركية على laquo;طالبانraquo; والتحالف العسكري الاضطراري بين الجيشين الباكستاني والأميركي، هنا تحولت laquo;طالبان باكستانraquo; الرديف لأختها الأفغانية إلى العمل المسلح نتيجة الرفض الشعبي الوجودَ الأميركيَ في منطقة القبائل تحديداً، فوقع المحظور واحترب الإخوة، ووجد الجيش واستخباراته المعقدة والتي عليها أن تتعاون مع الأميركيين أنفسهم أمام وضع صعب، فهي لا تريد التخلي عن ربيبتها laquo;طالبان أفغانستانraquo;، ولكن تركت للأميركيين حق مطاردتها، وفي الوقت نفسه ضاقت بتمرد فرعها الباكستاني الذي تبنى مفهوم laquo;القاعدةraquo; الضيق للقاعدة الشرعية في الولاء والبراء، فصنف جيشه في قوام الكفار الذين اضطر إلى التحالف معهم.

هنا جاءت محاولات خالد خواجة الصعبة، في إقناع laquo;طالبان باكستانraquo; بإنهاء تمردهم واستهدافهم جيشَ بلادهم، مقابل أن يتوقف الجيش عن ملاحقتهم، غير أنه اُختُطف واتهم بالعمالة للاستخبارات الأميركية وقتل من عناصر محسوبة على laquo;طالبانraquo;.

الأمر نفسه حصل مع داعية مشهور وإمام واحد من أكبر مساجد بيشاور مولانا حسن جان، وهو عالم دين معروف ومن خريجي أول دفعة في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة واتجاهه سلفي معتدل، خرج مع أحدهم من المسجد لعقد نكاح، فانتهى مقتولاً، وجريمته كانت أنه انتقد غلو laquo;طالبان باكستانraquo;.

التفجيرات وعمليات الاغتيال والعمليات الانتحارية تكاد تكون يومية في باكستان، قضت على سياسيين وعلماء دين. المواجهات العسكرية مستمرة في مناطق القبائل والتي كثيراً ما تكون معارك صغيرة تستخدم فيها الدبابات والقصف الجوي، ويسقط فيها مدنيون. الأميركيون يزيدون الطين بلة بعمليات القصف الجوي التي تستهدف ناشطين في laquo;القاعدةraquo; وكثيراً ما يقتل فيها مدنيون، فتشتعل النفوس بالغضب. بعيداً من مناطق القبائل يوجد استقطاب طائفي عنيف سنّي ndash; شيعي وآخر قومي في أكثر من مكان في باكستان.

هذه الدورة مستمرة منذ نحو عشر سنوات، أثرت في التنمية والاقتصاد، وخلق الوظائف. بينما الجارة الهند تتكامل مع العالم وتنهض اقتصادياً. تتراجع باكستان، الاستفتاءات بين الباكستانيين تشير إلى توغل ثقافة المؤامرة عندهم، غالبيتهم تكره الولايات المتحدة حتى أكثر من الهند، باكستان تنعزل أكثر، وعلاقتها بالعالم تتراجع، يزداد فيها الفقر والبطالة ليدفعا مزيداً من الشباب إلى أتون laquo;طالبانraquo; والتطرف.

هل من حل؟ لم يعد أحد يجرؤ على انتقاد laquo;طالبانraquo;، فالقتل مصيره إن فعل، قادة الحركات الإسلامية يزايدون عليها في التصريحات النارية. الساسة الفاسدون لا يتغيرون بل يصلون إلى السلطة عبر الصناديق الانتخابية التي هي من أبرز مطالب الربيع العربي، أما الجيش فهو متربص دوماً بالديموقراطية العوراء.

هل ثمة ربيع كـ laquo;الربيع عربيraquo; مقبل إلى باكستان؟ لا شيء في الأفق، فالشارع الباكستاني منقسم، منشغل بأخبار القتل والاغتيالات أكثر من انشغاله بالتنمية وحقوقه في وظائف وتعليم ورعاية صحية أفضل. آخر حركة احتجاجية كانت تلك التي قادها المحامون وأسقطوا بها الرئيس السابق الجنرال برويز مشرف، ثم خلدوا للراحة بعدها. التظاهرات الوحيدة في باكستان هي تلك التي تلعن أميركا أو تشيّع قتيلاً سقط في مواجهة طائفية أو بين الجيش و laquo;طالبانraquo;.

* كاتب سعودي