عبد الرحمن الراشد


لا بد أن الذين شاهدوا محاكمة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك انقسموا إلى فئتين؛ واحدة شعرت بالزهو والانتصار، وثانية شعرت بالأسى والانكسار. السعداء يرون أن المحاكمة إحقاق للعدل ودرب للشرعية وتؤكد بأنها ثورة ضد الطغيان والفساد. الحزناء ينظرون للمحاكمة على أنها انتقام الفريق المنتصر، ولعبة سياسية تشارك فيها الأطراف الحاكمة اليوم تبحث من خلالها عن شرعية لنفسها، وأخطر من ذلك، أنها بوابة لمستقبل كئيب لم تمارس مثله حتى ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 التي أقصت النظام الملكي.

وحتى المؤيدون لمبارك لا ينكرون إشكالات النظام وأخطاءه، لكنهم يعتقدون أن الرجل خسر كل شيء وهذا ثمن باهظ، وعلى الحكام الجدد أن يؤسسوا لمستقبل أفضل لا يقوم على الانتقام من الماضي. ويرون أن عهد مبارك كان أكثر العهود المصرية تسامحا وحريات، وعلى الأجيال أن تقرأ التاريخ على حقيقته.

ومن يسمع رأي الجانبين يجد منطقا، فما هو المعقول؟

في رأيي أن المحاكمة بالفعل لها أن تؤسس للعدل والحكم الرشيد، كما يقول دعاتها، لكن يجب أن يشهد العالم، والمصريون على وجه الخصوص، أنها تقوم على القانون؛ والقانون فقط، لا أن تتحول إلى محاكمة سياسية. إن توجيه التهم، بما يعنيه ذلك من تقديم حقائق ومنح المتهمين كامل حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم، سيكون فخرا للعدالة المصرية، وستؤسس بالفعل مفهوم احترام النظام وتطبيقه على الجميع؛ بدءا من رأس الدولة. الخشية، التي يرددها الرافضون، أنه لا توجد إمكانية للعدالة في ظل صرخات الانتقام، وإرهاب الخصوم، وأن التعجيل بالمحاكمة جاء إرضاء للمتظاهرين وليس انسجاما مع قواعد التداعي والترافع في القانون المصري.

لقد ظهرت في الساحة المصرية حملات هاجمت محامي المتهمين، وحرضت ضدهم، في حين أن القضاء المصري نفسه يكفل حق المتهم في أفضل نظام دفاع ممكن. وبعيد الجلسة الأولى من محاكمة مبارك انتشرت الانتقادات ضد السماح بوجود شاشات تلفزيون يشاهد عبرها المتهمون، مثل علاء وجمال، أنفسهم وهم في القفص يتخذون سلوكا مناسبا للكاميرا، وأن المتهمين عندما خرجوا لم يكونوا مصفدين بالسلاسل وكانوا في حالة مرح.. انتقادات تعبر عن الرغبة في اختصار المحكمة نحو الإدانة والتجريم، وهذا يؤشر إلى أنها قد تكون محكمة مثل محاكمات الانقلابيين في الدول العربية.. مجرد استعراض تلفزيوني للشرعية الجديدة.

وفي خضم هذا الجدل، لا أحد ينكر محاسبة الحكم المخلوع، لكن ليس من قبل المنتصرين. بقضاء مستقل حقا، تكون المحاكمة رادعا ضد تكرار الممارسات الخاطئة لاحقا من قبل النظام الجديد، فيخشى إساءة استخدام السلطة، ويؤسس المجتمع مبدأ المحاسبة نفسه.

والحقيقة أن النظام العدلي في مصر، رغم ضغوط الإعلام عليه، يتميز عن غيره من النظم العربية بتجربة ليست بالهينة حتى في زمن الحكومات السابقة.. فالعديد من القضاة في عهد مبارك لم يكونوا يوافقونه على قراراته، وكان لهم دور مميز في الاعتراض على قوانين التمديد وممارسات الانتخاب. وعندما نسمع اليوم الجدل القانوني خارج المحكمة نجد أن ثقافة القانون في المجتمع المصري راقية، والجدل القانوني يهيمن على نقاشات السياسيين والإعلاميين؛ لا فقط في دوائر المؤسسات العدلية.

أجزم أننا في المستقبل سنسمع الكثير من تبادل اللوم والتبرؤ مما يحدث اليوم، إلا إذا اختار المنتصرون اليوم طريق المحاسبة لتسجيل المواقف وتصحيح كتابة التاريخ، وليس للانتقام بالسجن والإعدام.

[email protected]