عبدالوهاب بدرخان


الثورة الليبية تقترب من اللحظة الحاسمة ويجب الحذر من الاعيب النظام


يكاد الأمر يصعب على التصديق، سيف الإسلام القذافي يمارس الحرب النفسية عبر quot;نيويورك تايمزquot; متطلعاً إلى أحداث فتنة دموية بين أطراف المعارضة في بنغازي، لم يحمل لقاؤه مع هذه الصحيفة خبراً قديماً وتجاوزه الزمن فحسب، وإنما تميز بمناورة بروباغندية مكشوفة، فهو قال بوضوح إن اتفاقاً حصل مع الإسلاميين للتخلص من العلمانيين والليبراليين في المعارضة، والأكيد أنه أراد استغلال لحظة التوتر التي طرأت بعد اغتيال اللواء عبدالفتاح يونس على أيدي إسلاميين يفترض أنهم منضوون في صفوف المعارضة.
عندما تحدث سيف كان يعلم أن محاولة الاتفاق مع الإسلاميين لم تنجح، تحديداً بسبب شرط رحيل القذافي الأب وكل العائلة ليتمكن الليبيون بعدئذ من التوافق في ما بينهم بشأن النظام المقبل، أي أن سيف استخدم تلك المقابلة الصحفية ليطلق أكاذيب لن تعيش طويلاً، لكنه أمل بأن يبقى منها شيء في الأذهان، فلو كان هناك اتفاق فعلاً، لجاء كلامه عن شركائه فيه أكثر تهذيباً، ولو صح أن هناك اتفاقاً لما كان أعلن أن هدفه القضاء على العلمانيين quot;ليهربوا أو يقتلواquot; بل لكان تحفظ أصلاً عن كشف ذاك الاتفاق لئلا يجهضه.
للمرة الثانية، منذ حديثه المتلفز مساء 20 فبراير يظهر سيف الإسلام القذافي مزيجاً من الصبيانية والرعونة والإجرام، في الأولى بدد كل معالم الصورة الخادعة التي كان بناها طوال أعوام، وصدقها كثيرون، بأنه إصلاحي وتحديثي يريد أن ينقل ليبيا وشعبها من حكم مارسه والده وبات مرفوضاً إلى حكم يتسم ببعض المعقولية والشراكة وفي الثانية، من خلال الصحيفة الأمريكية، بدا وقد اكتسب فعلاً كل ملامح المطارد من جانب العدالة الدولية الذي صدرت فعلاً مذكرة توقيف بحقه، والعتب ليس عليه بل على من يحاوره أو يحاور أزلامه ظناً منه أن هذا رجل يمكن الأخذ بما يقوله رغم كل السوابق، سيف القذافي لا يستطيع أن يحيد قيد أنملة عن خط والده، وبالأخص في مثل هذه الظروف.
كانت اللقاءات الثلاثة بين مبعوث النظام أبو زيد دوردة وعلي الصلابي تمت في القاهرة، وبرعاية المخابرات المصرية، سبق للصلابي أن حاور سيف واستحصل على اطلاق سراح معتقلين إسلاميين قبل بضعة شهور من اندلاع الثورة، كما سبق للصلابي أن تمنى علناً لو أن سيف يمسك بزمام السلطة، وكان ذلك طبعاً في وقت لم تكن الثورة واردة أو متصورة، وبمعزل عما حصل في المحادثات بين الرجلين، فإن هذا الاتصال بالنظام حصل من دون تنسيق مسبق مع المجلس الوطني الانتقالي، ما شجع سيف على الاعتقاد بأن اختراق المجلس ممكن بمجرد وجود طرف يقبل بالتحادث يعتبر بالنسبة إلى النظام كمكسب يمكن البناء عليه، حتى لو لم يفض التحادث إلى صفقة، بل حتى لو لم يحصل اختراق فإن نجل القذافي سيوحي بأنه حاصل.
والمشكلة هنا أن النظام ليس لديه ما يقدمه، إذ يخلو تاريخه تماماً من أي مبادرات سياسية داخلية، كما أنه تصرف على الدوام كأنه الوريث المباشر للاستعمار، وقد ورث أيضا أساليبه في معاملة المواطنين والمجتمع، وبوسيلة وحيدة هي الاخضاع، نفذ قاعدة quot;فرق تسدquot; حتى استهلكها، ولايزال يداعب الأحلام بإمكان مواصلتها، ليس في تراثه مصطلحات quot;الدستورquot; وquot;التعدديةquot; وquot;المشاركةquot;، لكنه برع في اختراع الشعارات الكاذبة ولم يكن يتوقع من الشعب سوى تصديقها، وحتى صباح السابع عشر من فبراير كان متيقناً بأن ليس هناك شعب في هذه البلاد، وبالتالي فليس له أن يخشى أو يقلق، وعندما ظهرت الحقيقة فقد صوابه، ولم يعد استمراره في وكره في طرابلس سوى أيام زائدة من حكم لم يعد يمارسه ومن سلطة لم تعد في قبضته.
فكيف يمكن محاورة طاغية هدفه أن يجير الثورة لمصلحة استمرار نظامه، أرسل موفدين إلى دول quot;صديقةquot;، دول فيها ديمقراطية حية في أمريكا اللاتينية، ليقول إنه واقع تحت ظلم وإن quot;الناتوquot; يعاقبه لأنه طرح على الشعب تنظيم انتخابات وتطبيق quot;إصلاحاتquot; سبق لنجله سيف بأن تحدث عنها، ولم يجد هؤلاء quot;الأصدقاءquot; سوى أن يباركوا نياته وأطروحاته ndash; غير أن صدقاتهم معه تأسست على اعتقادهم أنه يشاركهم العداء لأمريكا، ولعلهم يعلمون أو لا يعلمون أنه كان ولا يزال يعتبر أن صعوده إلى السلطة واحتمال بقائه فيها يتوقفان على نجاحه في إرضاء أمريكا، فبعدما جال مبعوثوه مختلف العواصم سعياً إلى quot;حل سياسيquot; يتضمن بقاءه في السلطة أو تسليمها إلى أحد أنجاله، أدرك أن سعيه خائب ولذلك راح يرسل الدعوة تلو الدعوة إلى واشنطن كي تنخرط في تسوية معه، ويبدو أن مراقبته للتطورات في مصر وتونس جعلته يعتقد أن الولايات المتحدة باتت تحبذ ائتلافاً بين العسكر والإسلاميين، هؤلاء بصفتهم القوة الفعلية المنظمة على الأرض، وأولئك بصفتهم ورثة النظام السابق الذي كان يحظى برعاية أمريكية قبل أن يتهاوى رأسه هنا وهناك.
لعل هذه الاستنتاجات غير خاطئة، لكنها لا تعني أن تطبيقها ممكن في كل الأماكن والحالات، فإذا كان النظام يسعى إلى إنقاذ نفسه كيفما تيسر له ذلك، فلا شك أنه مضطر إلى تقديم تنازلات مهمة وجوهرية، ولن يحقق غايته بمجرد استمالة الإسلاميين أو أحد وجوههم أو إحدى شراذمهم، وفي أي حال لم يكونوا مضطرين لتعريض أنفسهم وكأنهم بصدد بيع الثورة وأبنائها للقذافي وأبنائه، فحتى لو توصلوا إلى أفضل اتفاق ممكن مع النظام فإنه سيتمسكن إلى أن يتمكن من القضاء عليهم، لأن الليبيين سيفضلونه عندئذ عليهم، وكذلك العالم.
يلزم عمل كثير الآن لتأمين تماسك الثورة ومجلسها الانتقالي، ومن الضروري أن يبرهن الإسلاميون قبل سواهم أنهم ملتزمون بالأهداف التي ينال المجلس على أساسها اعترافات الدول الكبرى به كما يتحصل على أساسها على الدعم اللازم لإسقاط النظام، وطالما أن التطورات الميدانية، خصوصاً في الغرب، تؤكد أن الثورة تقترب من اللحظة الحاسمة، فليس هذا الوقت لانفراد أي طرف أو جنوحه، وفي الحالة الليبية ينبغي الاستثناء، فلا تأكل الثورة أبناءها لأن النظام لايزال جاهزاً لالتهام الجميع.