صالح القلاب


جاء خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي وجهه إلى سوريا يوم الأحد الماضي والذي كان عنوانه الرئيسي المقصود به أساسا الرئيس السوري بشار الأسد: laquo;إما الحكمة أو الفوضىraquo;، بمثابة laquo;الكيraquo; الذي هو آخر الدواء، كما جاء بما احتواه من تحذير من مغبة المضي في السير على هذا الطريق الوعر والشائك بمثابة القول: laquo;اللهم اشهد إني قد بلغتraquo;.

إنها القطرة التي أفاضت الكأس، فقبل هذا الخطاب التاريخي الذي أكد من خلاله خادم الحرمين الشريفين على أن الوضع في سوريا، بعد التمادي في استخدام القوة العسكرية الغاشمة، أصبح على مفترق طرق، فإما الحكمة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإما الفوضى المدمرة، بقي الملك عبد الله بن عبد العزيز شخصيا يبذل جهودا مضنية لإقناع الرئيس السوري بشار الأسد بخطورة الذهاب بعيدا في هذه السياسة الخشنة، بل الدموية، التي يتعامل من خلالها مع شعبه، وأن عليه أن يُحكَّم العقل لتفادي إيصال بلاده إلى الخراب والحرب الأهلية.

لكن كل هذه الجهود الخيرة، التي بقي يبذلها خادم الحرمين الشريفين شخصيا وتبذلها المملكة العربية السعودية على مدى الفترة منذ انفجار هذه الأحداث المتلاحقة في مارس (آذار) الماضي، واجهتها القيادة السورية بالمزيد من الابتعاد عن laquo;الحكمةraquo; المطلوبة في مثل هذه الحالات والأوضاع وبالمزيد من استخدام القوة المدمرة، ولهذا فقد كان لا بد من هذا الخطاب التاريخي، ولا بد من هذا الموقف العقلاني الحازم الذي جاء في اللحظة المناسبة، والذي كان العرب والمسلمون، إن على صعيد الشعوب وإن على صعيد الأنظمة، ينتظرونه على أحر من الجمر.

كان الوضع في سوريا قبل ساعات قليلة من هذا الخطاب قد وصل إلى ذروة التأزم، باجتياح الدبابات وقوات المغاوير بملابس مدنية لمدن سورية ذات هوية طائفية محددة، هي حماه ودير الزور وحمص وإدلب، والمعروف أن مجلس التعاون الخليجي كان قد أصدر بيانا باسم دوله الست لعبت فيه المملكة العربية السعودية الدور الرئيسي، جاء بمثابة تمهيد لهذا الخطاب وبمثابة مقدمة لإجراءات فعلية بدأت تتضح أبعادها بعد كل هذا التوتر الذي شهدته العلاقات التركية - السورية.

لم يكن بإمكان المملكة العربية السعودية إلا أن تبادر إلى هذه الخطوة بعد أن بذلت جهودا مضنية من خلال الدبلوماسية الصامتة لم يحالفها الحظ للأسف لإفهام بشار الأسد بأنه بما يقوم به يدفع البلاد نحو الفوضى والحرب الأهلية، فأصبح مثل هذا التحذير ضروريا لأي خطوات عملية بات من الواضح أنها ستأخذ طريقها إلى التنفيذ والمباشرة إذا لم تقع معجزة ويستمع الرئيس السوري إلى نداء العقل والضمير والحكمة الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين، المعروف بحبه لسوريا كدولة وكشعب والمعروف بوقوفه إلى جانب هذه الدولة العربية في مرات كثيرة كانت فيها بحاجة إلى الدعم والمساندة.

وحقيقة أن القناعة الراسخة لدى معظم المتابعين للجهود التي بقي خادم الحرمين الشريفين يبذلها بصمت وبعيدا عن الأضواء لإنقاذ سوريا الرسمية من نفسها ولثني القيادة السورية عن ممارسة كل هذا العنف الذي تستخدمه ضد شعبها، هي أنه من غير المتوقع أن يستجيب بشار الأسد لما تضمنه هذا الخطاب التاريخي وأن يبادر إلى هدنة مع شعبه يبدأها بوقف إطلاق النار وسحب الدبابات والوحدات العسكرية وفرق الميليشيات من المدن والقرى السورية ويعطي فرصة للسوريين ليعبروا عن أنفسهم وعن مطالبهم بالوسائل السلمية كما يشاؤون ولتكون هناك أجواء مستجدة تفسح المجال لحوار حقيقي ينتهي بالاتفاق على ما يمكن أن يعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الخامس عشر من مارس (آذار) الماضي.

فمشكلة بشار الأسد أنه محاط بمراكز قوى من أشقائه وأصهاره وأبناء خؤولته وعمومته استطاعوا أن يقنعوه بأنه لا بد من اتباع الأسلوب العنفي الذي استخدمه أبوه مع حماه في فبراير (شباط) عام 1982 مع هذه الانتفاضة منذ لحظة انطلاق شرارتها الأولى من درعا في الخامس عشر من مارس الماضي، وأنه لا بد من استخدام كل ما لديه من قوة غاشمة وتدميرية لتدمير معنويات الشعب السوري وإفهامه بأنه لا خيار أمامه إلا الإذعان لمعادلة هذا الحكم وهذا النظام المستمرة منذ laquo;الحركة التصحيحيةraquo; في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970.

هذه هي المشكلة الأولى، أما المشكلة الثانية فهي أن الرئيس حافظ الأسد قد أورث ولده بشار، الذي هناك فرق هائل بينه وبين أبيه، قناعة أن خيار سوريا وخيار النظام هو بقاء التحالف الاستراتيجي الذي له مقومات مذهبية، وللأسف مع إيران الخمينية التي لم يعد خافيا أن لها تطلعات في هذه المنطقة العربية لاستعادة أمجاد فارسية قديمة في الشرق الأوسط كله.

كان حافظ الأسد يلعب بورقة التحالف الاستراتيجي مع إيران بطريقة بارعة، فهو تمكن من إقناع بعض دول الخليج بأن هذا التحالف ضروري للحد من أطماع الثورة الخمينية في هذه المنطقة، وهو دأب على خلق الكثير من المشاكل في هذا المجال ثم يلجأ لبيع حلها ماليا وسياسيا للدول الخليجية المعنية، لكن نظام الأبناء الذين ورثوه لم يأت بكفاءة نظامه. وهنا فإنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن الكثير من الظروف الموضوعية والذاتية السابقة قد تغيرت، وأن معطيات كثيرة قد استجدت ألغت كل هذه المعطيات السابقة.

ولذلك - ولأنها أدركت خطورة اختطاف مخطط التطلعات الإيرانية في هذه المنطقة لسوريا - فقد بقيت السعودية تبذل جهودا مضنية لإخراج هذه الدولة العربية المركزية والمهمة من هذا التحالف مع إيران على حساب مكانتها وعلى حساب المصالح المشتركة بينها وبين باقي دول هذه المنطقة، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي المستهدفة مباشرة من قبل دولة الولي الفقيه والمشروع الإيراني الساعي لإحياء النفوذ الإقليمي الإمبراطوري الفارسي القديم.

وهكذا وبالمحصلة فإنه غير متوقع أن يبادر بشار الأسد إلى التقاط حبل النجاة الذي ألقاه خادم الحرمين الشريفين إليه مساء الأحد الماضي فهو يعتقد اعتقادا راسخا بأن بقاءه وبقاء النظام الذي ورثه من أبيه مرهون بهذا الحلف، وبالتالي فإنه لا مانع لديه بأن يدخل سوريا في لعبة استقطاب إقليمية ودولية أيضا يرى أنها، وفي كل الأحوال، أكثر ضمانا له ولنظامه من وقف العنف وترك الشعب السوري يعبر عن آرائه بالتظاهر وبالوسائل السلمية.

حتى الآن وبعد أن مضت كل هذه الفترة على الخطاب التاريخي الذي وجهه خادم الحرمين الشريفين إلى سوريا فإنه لا توجد أي استجابة حقيقية من قبل الرئيس بشار الأسد ونظام حكمه، وهذا يعني أن اللجوء إلى الجراحة الاستئصالية قد يصبح ضروريا، وأن الأمور قد تتعدى مجرد الضغوط السياسية المتواصلة التي تمارسها تركيا وبعض دول هذه المنطقة بالتنسيق مع الولايات المتحدة ومع فرنسا وألمانيا.. وكل شيء جائز والأيام القليلة المقبلة ستكون حاسمة وفي غاية الأهمية.