فايز سارة

لا شك بأن سوريا تواجه اليوم واحداً من أكبر تحديات واجهتها منذ قيام كيانها السياسي الحديث في العام 1936، وأهمية هذا الحدث تنبع من تلازم أمرين اثنين، اولهما تطورات داخلية خطيرة، تترافق مع حراك خارجي لا يقل خطراً عن سابقه، ويعطي تلازم الامرين للتحدي السوري الراهن بعداً إضافياً، يجعله في بؤرة الخطر الشديد على الشعب والكيان.
لقد واجهت سوريا في واقعها الداخلي العديد من الانقلابات العسكرية التي استمرت في الفترة ما بين 1949 والعام 1970، وكان الاخطر فيها الانقلاب الذي قام به قادة الجيش ضد سلطة الدكتاتور اديب الشيشكلي عام 1954 والذي وضع البلاد على أعتاب حرب اهلية، غير ان ذلك الخطر دفع الدكتاتور للتخلي عن السلطة ومغادرة البلاد، تجنباً لإدخال البلاد بوابة حمام الدم، وانتهى الامر بصورة سلمية. وكان بين تحديات الانقلابات العسكرية، ما حدث في انقلاب 14 تموز/يوليو 1963، حيث تصادمت قطعات من الجيش السوري في اطار صراع بين تيارين سياسيين متشاركين في سلطة 8 آذار /مارس 1963 من البعثيين والناصريين، وقد انتهى بحسم السلطة لصالح البعثيين.
ومثلت الصراعات بين السلطة والمجتمع، أحد محاور التحديات التي واجهتها سوريا في الخمسين عاماً الماضية. ومنذ استيلاء البعث على السلطة في العام 1963، حدث الصدام الاول بين السلطة والمجتمع على خلفية معارضة التوجهات السياسية والاقتصادية للنظام الجديد، فكانت الصدامات التي حصلت في دمشق ومدن اخرى شارك فيها الجيش وقوات الحرس القومي في عامي 1964 و1965، وانتهت في الحالتين بقمع الحركة الشعبية بواسطة الجيش السوري وميليشيات الحرس القومي البعثية، ثم حصل صراع لاحقاً في العام 1973 في وسط سوريا، نتيجة احتجاجات على محتوى الدستور السوري، قبل ان تتطور الحالة بصورة اعنف ما بين العام 1976 و1983، حيث انطلق صراع بين المجتمع والسلطة، على قاعدة خلاف سياسي اقتصادي/اجتماعي، ثم دخل شكل صراع جماعات دينية مسلحة مع القوى الامنية والعسكرية التي انضمت اليها ميليشيات حزبية وعمالية، انتهت بهزيمة الجماعات المسلحة من جهة وإخضاع المجتمع بصورة كلية خاصة بعد اجتياح الجيش والامن لمدينة حماة وسط سوريا.
وواجهت سوريا الى جانب التحديات الداخلية السابقة، تحديات خارجية منها التدخل السوري في لبنان وما شهده من مواجهات، ثم انخراط سوريا في الحرب الدولية على العراق 1991، لكن الاهم في هذه التحديات ما فرضه الصراع مع اسرائيل وخاصة حرب العام 1948، التي أثبتت عجز سوريا ودول عربية اخرى عن مواجهة قيام اسرائيل وتكريسها كياناً في قلب المنطقة العربية، ثم تكرر الامر مرات بصورة اشد قسوة على نحو ما حدث في العام 1967، حيث لم تخسر سوريا الحرب بل خسرت ايضاً جزءا من ارضها وشرد بعض سكانها، وهي وقائع ما زالت قائمة حتى الآن، ثم خسرت سوريا حرب العام 1973، والتي قادت الى توقيع اتفاقية فصل القوات في العام 1975، وقد كرست حالة استقرار على خط الجبهة السورية ـ الاسرائيلية منذ ذلك الوقت، بدت وكأنها وضعت قضية تحرير الجولان السوري خارج الاحتمالات العسكرية والسياسية.
ان التحدي الراهن تحد شامل وهو مختلف عن كل التحديات السابقة. والاساس في اختلافه، انه بدأ داخلياً، ثم توسعت تفاعلاته باتجاه الخارج، فصارت له امتدادات إقليمية ودولية، صدرت بصددها مواقف دولية واقليمية، بينها البيان الرئاسي الصادر مؤخراً عن مجلس الامن الدولي، إضافة الى مواقف الدول الغربية والعربية, وتركيا جارة سوريا في الشمال، وقد عبرت تلك الاطراف عن الرغبة في وقف الحلول الامنية واللجوء الى معالجة سياسية لواقع الازمة القائمة في سوريا.
ويزيد من اهمية وخطورة التحدي الراهن بما يمثله ازمة عامة تعصف بالمجتمع السوري، انخراط فئات وشرائح واسعة من السوريين في مختلف المناطق، رغم القمع الشديد والعنيف الذي قوبلت به حركة الاحتجاج والتظاهرات، بل ان تلك الحركة تناسب في صعودها واتساعها وزيادة أعداد المشاركين فيها طرداً مع زيادة القمع والعنف الموجه ضدها وضد حواضنها الاجتماعية.
كما ان بين مؤشرات اهمية التحدي الراهن الانتقالات التي شهدتها شعاراته، التي وان بدت مطلبية وإصلاحية في البداية، فإنها سرعان ما انتقلت الى الابعد، فصار أساس الشعارات تغيير النظام، وهو ما يجسده شعار laquo;الشعب يريد إسقاط النظامraquo;، وهو شعار لم يسبق ان طُرح في مستوى التظاهر والاحتجاج، ومما يزيد هذه الاهمية أمران اثنان، اولهما الاصرار على سلمية الحراك الشعبي، والثاني تأكيد الحراك على وحدة السوريين في مساعيهم للتغيير وإعادة بناء الدولة والسلطة على أسس جديدة تناسب طموحات السوريين الى العدالة والمساواة ودولة الحق والقانون.
ان وقائع التحدي السوري الراهن تجعله بالفعل أبرز تحديات سوريا في تاريخها الحديث. وسواء جرى تغيير النظام طبقاً لما يطالب به المتظاهرون والمحتجون، أو استطاع النظام حسم الوضع لصالحه، والاخير أمر بعيد الاحتمال، فإن الوضع السوري لن يعود الى ما كان عليه قبل بدء التظاهرات والاحتجاجات في آذار/مارس الماضي، لان بصمات التحدي ومطالب التغيير وهتافات المتظاهرين ستترك أثرها حتى لو اختفى المتظاهرون أو غابوا.