حمد الماجد


الثورات العربية في مصر وليبيا واليمن وتونس أظهرت، بما لا يدع مجالا للشك، تجذُّر التيارات الإسلامية في الدول العربية وقوة تأثيرها؛ فالثورة الليبية الأخيرة كان عصبها الإسلاميين بشتى أطيافهم، بل كانوا لحمها وعظمها، وفي مصر، وإن لم يكونوا من أشعل جذوتها وتنادى لها في ميدان التحرير، إلا أن الأمان الذي أحست به التيارات الإسلامية بعد تهاوي نظام مبارك الإقصائي العنيف جعل هذه التيارات تميط اللثام عن وجهها العريض وتخرج للشمس، خاصة التيار السلفي. وفي اليمن الذين يملأون ساحة التغيير فيه سوادهم الأعظم من الإسلاميين، إذن صارت التوجهات الإسلامية المعتدلة رقما صعبا لا يمكن تجاهله، هذا إذا أرادت الدول العربية التي اشتعلت فيها الثورات أمنا واستقرارا، ومن المؤسف أن الدول الغربية أول من التفت مبكرا لهذه الحقيقة، وكانت هناك محاولات تواصل بين عدد من الحكومات الأميركية المتعاقبة والتيارات الإسلامية في مصر، خاصة الإخوان المسلمين، إلا أنها كانت تصطدم بصخرة موقف رفضي عنيف من نظام مبارك، إلى أن وقعت الواقعة على النظام المصري، فأدرك الجميع أنه لا بد من التيارات الإسلامية وإن طال سفر الأنظمة.

حسنا، آمنا أن عصر الثورات هو الوجه الآخر للعصر المزدهر للتيارات الإسلامية، لكن (اليوم خمر وغدا أمر)، كما يقول الفارس الجاهلي، أقصد أن الامتحان الحقيقي لهذه التيارات الإسلامية قد بدأ بعد أن ينفض السامر، لدى خصوم الإسلاميين تهمة نمطية معروفة، مفادها أن الإسلاميين سيغتالون الديمقراطية بمجرد اتخاذهم لها مطية للوصول إلى الحكم، وهو النمط الهتلري الذي جعل من الديمقراطية مركبا، ثم اغتصبها.. فرصة الإسلاميين مواتية للقضاء على هذه التهمة النمطية وللأبد أو تأكيدها للأبد، لا بد أن يدرك الإسلاميون، الذين سيفوزون بأول انتخابات ديمقراطية في الدول التي ثارت شعوبها، وأظنها مصر، أن المجاهر ستسلط عليهم لمعرفة كيف يتعاملون مع معطيات الديمقراطية؛ إذ إن إخفاقهم في استيعاب العملية الديمقراطية بعجرها وبجرها، حلوها ومرها، هو ضربة قاضية للديمقراطية في بلادهم وفي بقية الدول العربية التي تطبخ ديمقراطيتها لأول مرة (بمقادير إسلامية)، تماما كما كان حزب العدالة والتنمية التركي نموذجا أنعش الأمل عند العرب والغرب في استنساخ تجربته في دول عربية أخرى. لا بد أن يعرف الإسلاميون أن كثيرا من أدبيات خطاباتهم ستتساقط في طريق الديمقراطية الشائك، وهذا من شأنه أن يقلل من جماهيريتهم التي لم تعطهم أصواتها إلا بناء على أدبيات بعضها لا يمكن أن يتزاوج مع الديمقراطية حتى ولو بنكاح المتعة.

هناك laquo;تنازلات مؤلمةraquo; لا بد أن يقدمها الإسلاميون وهم مقبلون بشهية مفتوحة للمشاركة في الحكم في فترة ما يسمى الربيع العربي، وهناك ملفات شائكة سيضطرون للتعامل معها؛ ففي مصر، مثلا، سيواجهون التعامل مع ملف الصلح مع إسرائيل والاتفاقيات الاقتصادية معها، وبعض مظاهر laquo;المنكراتraquo; المتفشية في المجتمع، واعترافهم بالأحزاب الليبرالية والشيوعية والشيعية وتسليمهم بانتصاراتها أو ائتلافاتها، وكذلك السياحة وما يصاحبها من مظاهر واحتفالات وخمور لن تقبلها شريحة الجمهور التي منحتهم أصواتها من أجل تصحيحها، وإلا خالفوا نظام مبارك إلى ما نهوه عنه. بالمختصر المفيد أمام التوجهات الإسلامية المعتدلة بكل أطيافها خياران أحلاهما مر: إما القبول بالعملية الديمقراطية وتنازلاتها المرة والدخول في عالم السياسة المليء بالوساخات، وهذا مصطلح غربي، وإما الانكفاء على التوجيه والتربية.