القاهرة - أحمد أبو المعاطي

تتجه العلاقات بين قوى الثورة المصرية من جهة، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير شؤون البلاد، من جهة أخرى، نحو مزيد من التوتر، في أعقاب الأحداث الأخيرة التي صاحبت جمعة ldquo;تصحيح المسارrdquo; الأسبوع الماضي، وما أسفرت عنه من اقتحام عدد من الشباب الغاضب لمقر السفارة ldquo;الإسرائيليةrdquo;، وهو الأمر الذي وضع المجلس في موقف غاية في الحرج أمام المجتمع الدولي، كونه يتعلق في الأعراف الدبلوماسية بمفهوم ldquo;الدولة السيدrdquo; ومدى قدرتها على حماية الرعايا الأجانب العاملين بها .

تنظر كثير من القوى التي شاركت بنصيب وافر في ثورة الخامس والعشرين من يناير، إلى أداء المجلس العسكري خلال فترة الأشهر السبعة الماضية، باعتباره لم يلامس الحد الأدنى من مطالب الثورة وأهدافها، بل إن كثيراً من هذه القوى لم تخف صراحة اتهاماتها للمجلس بالتسبب في العديد من الأزمات السياسية التي شهدتها البلاد خلال تلك الفترة، والإخفاق في تبني حوار وطني حقيقي يضم مختلف الفصائل السياسية للتوافق على شكل الدولة الجديدة، طبيعتها ودستورها والاتفاق على جدول زمني لنقل السلطة لإدارة مدنية، يعود بعدها الجيش إلى ثكناته ويتفرغ لمهمته الرئيسة في حماية الحدود .

وربما لا يستطيع احد أن ينكر في مصر اليوم الدور الكبير الذي لعبه الجيش في الثورة، وهو دور يتجاوز إعلانه الصريح والمباشر الذي بدا واضحاً في بيانه الأول ب: ldquo;تأييد ثورة الشعب ومطالبه المشروعة في حياة عادلة وحرة وكريمةrdquo;، إلى الحفاظ على بنية الدولة المصرية وتماسكها خلال الفترة الأولى التي تلت سقوط النظام السابق، وما صاحب ذلك من انهيار كبير في العديد من مؤسسات الدولة وبخاصة المؤسسة الأمنية، وقد أدار المجلس هذه الفترة الحرجة بكثير من الحكمة، رغم حالة الانفلات الأمني الكبيرة التي شهدها الشارع المصري، وانتشار ميليشيات النظام المخلوع لإثارة الرعب في الأحياء وعلى الطرقات، وما يحسب للمجلس في تلك المرحلة أنه ظل ملتزماً بأقصى درجات ضبط النفس، فلم يطلق جندي رصاصة واحدة وحتى اليوم تجاه مواطن مصري، أياً ما كان موقفه، مؤيداً للثورة أم معارضاً لها أو حتى من الفلول .

المؤكد أن الاستفتاء على تعديل نصوص دستور العام ،1971 الذي جرى في مارس/آذار الماضي، كان أحد الأسباب الرئيسة في توتير العلاقة بين الثوار والمجلس العسكري، فالثوار كانوا يتعاملون مع المجلس باعتباره قد اكتسب شرعية وجوده من تأييده ومشاركته في ثورة الشعب، بينما كان الطرف الثاني يتعامل منذ اللحظة الأولى التي تولى فيها إدارة شؤون البلاد، وفق شرعية دستورية اكتسبها من التفويض الرئاسي، وقد كان هذا التباين في الرؤى سبباً مباشراً في العديد من الخلافات التي انفجرت لاحقاً بين الطرفين حسبما يرى كثير من المراقبين، إذ ظلت هذه الازدواجية ldquo;لا تخلو من تعارض بين واقع ثوري لا يمكن تجاوزه، وحالة دستورية أُريد تأسيسهاrdquo; وهو الأمر الذي لعب دوراً كبيراً ليس في إرباك المرحلة الانتقالية فحسب، وإنما في التأثير على نحو مباشر في أداء ldquo;المجلسrdquo; نفسه، عند التعاطي مع العديد من المواقف التي كانت تكشف إلى حد كبير عن هذا التباين، وقد تجلى هذا الارتباك في تراجع المجلس العسكري عن النتائج التي أسفر عنها استفتاء 19 مارس/آذار الشهير، الذي لعب دوراً كبيراً في انقسام قوى الثورة على نفسها، ما بين مؤيد للاستفتاء ومعارض له، ليعلن في نهاية الشهر عن ldquo;إعلان مبادئ دستوريةrdquo; اعتبرها كثيرون بمثابة دستور مؤقت للبلاد، لم يستشر المجلس في نصوصه أياً من القوى التي قامت بالثورة .

استقطاب

وتحمل كثير من قوى الثورة المجلس العسكري في مصر المسؤولية كاملة عن حالة الاستقطاب التي أعقبت هذا الاستفتاء، وما انتهت إليه هذه الحالة من انقسام كبير بين هذه القوى، حول طبيعة الخطوات التي يجب أن تهتدي بها البلاد خلال مسارها السياسي الجديد، لتتحول هذه القوى إلى فريقين، أحدهما تتصدره جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الأصولية التي نادت بالانتخابات البرلمانية أولاً، وقد كانت هذه القوى تستهدف من وراء ذلك السرعة في تشكيل برلمان جديد ينتخب بدوره الجمعية التأسيسية التي تضطلع بصياغة مشروع الدستور الجديد وطرحه للاستفتاء العام، بينما ظل الفريق الثاني الذي يضم القوى المدنية يراوح مكانه ما بين رفض نتائج الاستفتاء والإعلان الدستوري كلية، والدعوة لوضع دستور جديد أولاً يضمن مدنية الدولة، وهو موقف كان يعكس إلى حد كبير ليس فحسب تخوف هذه القوى من سيطرة تيار بعينه على البرلمان الجديد، وإنما في الحقيقة عدم قدرتها على تحمل تبعات مرحلة البناء للدولة الجديدة .

المؤكد أن الخلافات التي اشتعلت خلال تلك الفترة، بين المجلس العسكري من جهة والعديد من قوى الثورة، لم تتجاوز في طبيعتها كونها خلافات سياسية تعكس ذلك التباين حول طبيعة التحول الديمقراطي في البلاد، لكن هذا الخلاف سرعان ما دخل مرحلة الأزمة في أعقاب فتح ملفات محاكمة رموز النظام السابق، وما صاحب ذلك من بطء شديد اعتبرته كثير من قوى الثورة يصل حد التباطؤ في بعض الأحيان، خاصة في ظل تحولات عديدة ودرامية شهدتها مرحلة التحقيقات في قضية قتل الشهداء، بلغت حد الضغط على أسر هؤلاء الشهداء بل وإرهابهم من أجل تغيير أقوالهم في محاضر النيابة العامة، فكثير من ضباط وأفراد الشرطة المتورطين في هذه الجرائم ظلوا لشهور عديدة مطلقي السراح، بل إن عدداً منهم ظل يمارس عمله حتى في أثناء بدء هذه المحاكمات، وهو الأمر الذي أثار حنق قوى عديدة أعلنت تضامنها مع هذه الأسر، وشاركتهم العديد من الاعتصامات من أجل تحقيق ابسط مطالبهم بمحاكمات عاجلة لقتلة أبنائهم وحصولهم على حقوقهم كاملة .

الحكومة والمجلس العسكري

المؤكد أيضاً أن حكومتي الدكتور عصام شرف الأولى والثانية، لعبتا دوراً كبيراً وربما من دون أن تدريا، في تصاعد حدة الأزمة بين قوى الثورة والمجلس العسكري، فقد ظلت هذه الحكومة التي لم تكن قادرة على الفعل أو التعاطي مع العديد من الملفات المتعلقة بالمسار السياسي في البلاد، تطلق لقوى الثورة العديد من الإشارات، التي تفيد تقييد المجلس العسكري لحركتها وغل يدها عن العمل، من دون أن تقدم على افتراض صحة ذلك أية حلول، للعديد من الملفات المهمة والمتعلقة بالمسار الاجتماعي، وهو الأمر الذي أدى في النهاية إلى انفجار العديد من الاعتصامات والاحتجاجات الفئوية في قطاعات واسعة من الشارع المصري .

أداء حكومتي شرف الضعيف على مدى الأشهر الخمسة الماضية في ما يتعلق باتخاذ إجراءات، أو حتى الإعلان عن مشروعات واضحة لتحقيق مطالب الثورة الخاصة بالشق الاجتماعي، وما صاحب ذلك كله من بطء شديد على صعيد محاكمات رموز النظام السابق، لعب دوراً كبيراً في دعم حالة الارتباك التي شهدتها البلاد على مدى الشهرين الماضيين، وبخاصة ما يتعلق بالمسار السياسي للمرحلة الانتقالية، وقد أسهمت تلك الحالة في ظهور تدريجي لقوى النظام السابق التي خفت صوتها لفترة، قبل أن يعود إلى الظهور بقوة، في العديد من وسائل الإعلام، مستغلة في حقيقة الأمر افتقاد المجلس العسكري للخبرة السياسية اللازمة لإدارة تلك المرحلة الحرجة والدقيقة من عمر الثورة، وفي نفس الوقت الانقسام الحاصل بين قوى الثورة التي سارع بعضها للبحث عن غنائم في انتخابات لم يتحدد لها موعد بعد، فيما تفرغ بعضها الآخر لمحاولات بناء كيانات جديدة للحاق بركب لم تتحدد طبيعة مساره، وقد تركت القوتان في حقيقة الأمر الشارع نهباً لأزمات متلاحقة أسهمت في انفجار الأوضاع، على نحو بلغ ذروته بعودة الاعتصام إلى ميدان التحرير، وإغلاق المجمع الرئيس للمصالح الحكومية الموجود بالمنطقة في وجه الموظفين والمترددين عليه ليومين، بل وقطع الطرق الرئيسة في عدد من المحافظات، في رده فعل بدت منطقية إلى حد كبير، في ظل حكومة ظلت ماثلة في أذهان الجميع بصورة العاجزة عن الوفاء بأبسط واجباتها .

في يوليو/تموز الماضي بلغت حدة التوتر بين شباب الثورة الذين عادوا إلى الميادين من جديد، والمجلس العسكري ذروتها، بعدما وجه أعضاء في المجلس اتهامات صريحة إلى بعض الائتلافات الشبابية والقوى الفاعلة في الثورة بتلقي أموال من الخارج، ليبرز خطاب التخوين للمرة الأولى بعد قيام الثورة من جديد، وقد استتبع المجلس تلك الاتهامات المرسلة بالإعلان عن أنه سوف يتعامل بحزم مع استمرار التظاهرات الشعبية في الميادين، وما قد يصاحبها من تحركات ldquo;تنحرف عن النهج السلمي لهذه التظاهراتrdquo;، وقد رد الشبان المعتصمون على هذا الإعلان بالتحرك في مسيرات حاشدة اخترقت شوارع العاصمة باتجاه مقر المجلس نفسه لحصاره، الأمر الذي أدى إلى اشتباكات بين المتظاهرين وعدد من شباب الأحياء الشعبية القريبة من مقر المجلس في حي العباسية، بعد أن تلقف هؤلاء اتهامات التخوين والعمالة باعتبارها مسوغاً قانونياً للتعامل مع هؤلاء المتظاهرين السلميين، وقد شهدت تلك المنطقة قبل شهرين معارك طاحنة بين الطرفين خلفت مئات المصابين .

المؤكد أن ما وصف وقتها بrdquo;موقعة العباسيةrdquo;، قد لعب دوراً كبيراً في تصعيد الأزمة بين شباب الثورة المصرية والمجلس العسكري، وقد بلغت هذه الأزمة ذروتها في الأسبوع الماضي بدعوة هؤلاء الشباب القوى الثورية إلى العودة مجدداً إلى ميدان التحرير، فيما عرف بrdquo;جمعة تصحيح المسارrdquo; وما انتهت إليه الأحداث في ذلك اليوم من اقتحام مقر السفارة ldquo;الإسرائيليةrdquo;، في تصرف لم يكن يتخيله أحد، على ما ينطوي عليه من تبعات دولية، ثم ما جرى في تلك الليلة من إشعال ميليشيات مدفوعة من قبل عناصر من النظام السابق النيران في سيارات تابعة للشرطة، ومحاولة إحراق مبنى وزارة الداخلية وسط القاهرة، وهو الأمر الذي رد عليه المجلس العسكري بسلسلة من الإجراءات بلغت ذروتها بالإعلان عن تطبيق حازم لقانون الطوارئ الذي ظل يحكم مصر طيلة ثلاثين عاماً، الأمر الذي اعتبره كثيرون ينذر بتحولات دراماتيكية ينتظر أن تشهدها البلاد خلال الفترة المقبلة، ما لم تتفق جميع الأطراف فوراً على خطة عاجلة وفاعلة لإنقاذ ثورة اعتبرها العالم واحدة من أعظم الثورات الإنسانية في التاريخ الحديث .