محمد الرميحي

لماذا الحديث الكثيف عن سوريا، لأنها بلد مهم وشعب حيوي، وموقع جغرافي في قلب الأمة العربية، فيها عقول لا شك أنها راجحة. على رأسها بالطبع بشار الأسد، الذي هو حالة مختلفة عن ذلك غير السوي الذي حكم ليبيا حتى أسابيع خلت، ولأنها كذلك فإن التغيير فيها سوف يطول أماكن أخرى في الجوار.
إذاً لماذا هذه الحالة من الإنكار التي تتلبس النظام، لما يحدث في سوريا وحولها، ومحاولة تسفيه الحراك الشعبي الواسع بذرائع شتى. تفسير ذلك لا يخرج عن ثلاث كلمات (السُلطة تُعمي البصيرة) لا يوجد تفسير غير هذا.
أما التفاصيل فهي كثيرة. لعل بعضنا يذكر أن حالة (الإنكار) ليست جديدة على النظام السوري أو المتحدثين باسمه، وأذكر كما يذكر قراء هذه الصحيفة، أن السيدة بثينة شعبان المستشارة الإعلامية، وكانت تنشر مقالا أسبوعيا، كتبت مقالا بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، ذهبت فيه، وبتأكيد لا يخالطه الشك، أن الاغتيال تم بأيد إسرائيلية، كما أن الشحنة الناسفة جُلبت من العراق من مخازن الجيش الأميركي! وقتها استغرب من هم من أهل العقل والبصيرة، كيف بوزيرة (وكانت كذلك) تجلس في مجلس الوزراء السوري تؤكد مثل هذا الأمر دون دليل يذكر وبشكل مبكر، ووقتها كنت واحدا من المعترضين على ذلك التسرع علنا. اليوم عرف العالم من هم المتهمون باغتيال رفيق الحريري بالاسم والصورة، إلا أن التهم عادة تكون جاهزة، في أوساط الأنظمة الميالة إلى الإنكار، إسرائيل، أميركا والغرب! دون أدلة عقلانية مؤيدة.
مثل هذه المعالجة تقع في منظومة الإيمان بنظرية المؤامرة التي تشافى منها العقل العربي، وخاصة الأجيال العربية الجديدة التي تبحث عن إقناع لما تشاهد وتسمع، لا عن تفسير عاطفي.
نظرية المؤامرة تأخذنا إلى مكان آخر، هو الطلب الشعبي السوري بشيء من التدخل الإيجابي الدولي، نرى أن البعض يؤكد أن التدخل الغربي الإيجابي، لا يأتي إلا إذا كانت هناك مصالح اقتصادية كبرى، وخاصة نفطية. تستمر المقولة تلك إلى الإشارة، إلى أن سوريا ليس فيها نفط مثل ليبيا، وبالتالي يستبعد التدخل العالمي الإيجابي. هذه أيضا مقولة غير منطقية، لعلنا من أجل الاستشهاد لا غير نتذكر التدخل العالمي الإيجابي في كوسوفا، بعد أن استبيحت شلالات الدم هناك. ولكن النظرية تلك (المؤامرة) تستمر بالقول في ملف آخر، هو أن تغيير النظام السوري يعني اضطهاد المسيحيين في الشرق، وهو أمر يتصف بتجاهل أعمى لواقع تاريخ سوريا الحديث، حيث احتضنت في وقت سابق لحكم البعث الحالي عددا من المفكرين والحركات السياسية التي كان يقودها مسيحيون. وبالتالي لا يمكن اختصار الدفاع عن المسيحيين بوجود حزب البعث الحالي، تلك سذاجة يروجها البعض لغرض سياسي. حقيقة الأمر أن مطالب الشعب السوري في الأشهر الستة التي خلت، هي توسيع قاعدة السلطة السياسية وليس تضييقها، وهي تعني مشاركة كل المكون الشعبي السوري بكل طوائفه ومصفوفاته الثقافية على تنوعها.
حالة الإنكار الأخرى هي التي تتكئ على القول إن هناك مخاطر خارجية تأتي من خلق مساحة للتنفيس الشعبي، تلك ذريعة أخرى مثل ذرائع الممانعة وإلقاء اللوم على الآخر.
الحالة السورية تدخل مرحلة الارتباك، وشاهدي عليها، هو المقترح الذي يثير الابتسام والشفقة قبل أي شيء آخر، الذي سُمي بمبادرة الإصلاح العربية، وقيل إنه قد قُدم من النظام السوري إلى الجامعة العربية، تلك المبادرة السورية تطالب بتوسيع قاعدة المشاركة في البلاد العربية الأخرى، وإطلاق حرية الإعلام وتكوين الأحزاب. والتفسير المنطقي لهذا (المبادرة)، الذي لا تفسير غيره، أن النظام السوري دخل إلى مرحلة الإفلاس السياسي التي تصاحبه هلوسة الحمى، فالناس تتكلم عن قتل منظم في المدن والقرى السورية وظلم فادح في السجون والمعتقلات، وصل إلى حد توصيفه بحرب إبادة، واحتكار مركزي للسلطة في محازيب قليلة، والنظام يتحدث عن إطلاق حرية تكوين الأحزاب في أماكن أخرى!
يبقى الموضوع الآخر المهم، هو موقف الجامعة العربية، الذي يبدو من التصريحات المختلفة الصادرة من أطرافها، أنه متردد في اتخاذ خطوات ترتفع إلى مستوى خطورة الوضع السوري، في انتظار ماذا؟ لا أحد يعرف. روسيا لأسباب اقتصادية وأيضا سياسية خاصة بها لن توافق على أي مقترح يؤدي إلى تغيير النظام، هذا ما فعلته باتجاه القضية الليبية وأيضا ما تفعله باتجاه القضية السورية، لا لشيء أكثر من أن روسيا - كنظام - فيه من التشابه، ما في نظام ليبيا السابق وسوريا الحالي. الأجدى للناشطين داخل الجامعة العربية أن يحسموا أمرهم، وإلا فإن تصريحاتهم في حال تأخرهم في تفعيل مبادرة عربية دولية، لن تحمل عبارة (الشعب السوري)، حيث وقتها لن يكون هناك (شعب سوري) إلا في المقابر أو السجون!
آخر الكلام:
هل يمكن أن يتأثر النظام الإيراني لو اختل توازن النظام السوري الحالي واختفى أو تغير، هناك مخاوف حقيقية بدأت بالظهور في الأوساط الإيرانية، أقلها فقدان الحلفاء وأكثرها خطورة عبور نسمات الربيع العربي للوصول إلى البر الإيراني، كل شيء محتمل في السياسة