حامد الحمود


منذ أشهر والعالم يسمع تصريحات متناقضة بشأن الانسحاب الأميركي من العراق، فقد صرح وزير الدفاع الأميركي بانيتا بعد زيارة لبغداد بأن الحكومة العراقية وافقت على تمديد بقاء القوات الأميركية لما بعد يناير 2012. يعقب ذلك تصريح آخر لناطق باسم الحكومة العراقية نافياً هذه الموافقة. لنسمع بعدها تصاريح بأن مجلس النواب العراقي أعطى الصلاحية لرئيس الوزراء المالكي لكي يقرر كم من الـ 50 ألف جندي أميركي ومعداتهم يبقى بعد الوعد المقرر بنهاية السنة؟ أما هذا العدد الذي سيسمح له بالبقاء laquo;لتدريبraquo; القوات العراقية، فيتراوح بين ثلاثة آلاف وخمسة عشر ألف جندي أميركي. لكن وما دام الانسحاب الأميركي أصبح شبه مؤكد، فنتساءل: كم من النتائج المرجوة حققتها الولايات المتحدة بإسقاط نظام صدام حسين؟ هذا بعد ان فقد العراقيون ما يقارب 135 الفا من أبنائه بصورة مباشرة أو غبر مباشرة، وتم تهجير ما يزيد على ثلاثة ملايين بين الداخل والخارج، وفقد الأميركيون ما يزيد على 2000 من جنودهم، وصرفوا ما يزيد على 800 مليار دولار. وان كان هذا التساؤل دفع وسيدفع الكثيرين لتأليف الكتب وأخذ العبر، فإن التساؤل الذي يجب ألا يترك للمؤرخين فقط، هو: كيف سيكون العراق بعد هذا الانسحاب الأميركي؟ وهل ستتمكن حكومة المالكي من المحافظة على الأمن وتحسين أحوال العراقيين؟ وماذا سيكون تأثير هذا الانسحاب في علاقتها بدول الجوار، خصوصاً إيران وسوريا؟
والقراءة القريبة لمستقبل العراق تتراوح بين الغموض والتشاؤم، فالوضع الأمني ومنذ أكثر من ثلاثة اشهر أخذ بالتدهور، مع وجود القوات الأميركية. أما عن أحوال الناس ووضعهم المعيشي - وان كنت لا أزعم معرفة دقائق الأمور - فإن ما نقرأه ونسمعه يثير العطف على هذا الشعب الكريم الذي لم تتوقف معاناته من الحروب منذ ثلاثين عاماً. فالمياه شحيحة على معظم المواطنين. وفي الجنوب، حتى الحيوانات امتنعت عن شرب مياه شط العرب بعد ان ازدادت ملوحتها. أما الكهرباء، وبعد ثماني سنوات من سقوط النظام، فقد ارتفع إنتاجها من حوالي 5000 ميغاواط عام 2003 إلى 7500 عام 2011. هذا، في الوقت الذي تنتج فيه الكويت حوالي 12000 ميغاواط، وبحساب الإنتاج إلى عدد السكان يكون نصيب الفرد في الكويت ما يعادل 20 ضعفا نصيبه في العراق. ولعل ما نقله مراسل القبس أخيرا في البصرة عن وضع الشاعر العراقي كاظم الحجاج يوضح حجم المعاناة. فقد قرر هذا الشاعر اعتزال الناس بمن فيهم الأهل والأصدقاء لمعاناته من انقطاع التيار الكهربائي في مدينة تصل فيها درجة الحرارة إلى 50 درجة مئوية.
ولا شك ان هناك الكثير، أقل علما ومعرفة من هذا الشاعر، قد حققوا نفوذا وسطوة ومالا وحصلوا على ما يحتاجونه. فقد تراكم المال عند أفراد ومجموعات امتهنت السرقة واستغلال الدين. ويحكي رجل دين شيعي معتدل لمراسل صحيفة النيويورك تايمز كيف انه فوجئ عندما شاهد أحد تلاميذه السيئين يسير بموكب من السيارات بعد ان تغيرت احواله في وقت قصير. ويشتكي د. خلدون الأسدي، وهو من عائلة شيعية من الناصرية، الفوضى التي تعم الدوائر الحكومية والتي يقيم فيها العاملون وفقا لمدى قربهم من الأحزاب الشيعية. وقد وصل النفاق إلى ان laquo;انتشرت اللافتات والصور والاعلام لرجال دين ومراجع دينية ورموز طائفية وطقوس طائفية في الدوائر الحكومية والمؤسسات والمنظمات والاتحادات. وأخذ المسؤولون الحكوميون كبعض الوزراء يترأسون الشعائر الطائفية في الدوائر. وبشكل لايرضاه أبناء الطائفة المتعلمون، فكيف بأبناء الطوائف والأديان الأخرى؟!raquo;.
كنا نحلم أنه بعد سقوط نظام دكتاتوري قام بتهميش الشيعة في جنوب العراق، ان يتشكل نظام جديد، يرفع من مستوى معيشتهم، ويرتقي بتعليمهم، وان يطلق طاقاتهم لبناء عراق جديد. لكن يبدو انه اطلق طاقات الكثير منهم لاستغلال عواطف البسطاء تارة، وتخويفهم تارة اخرى.
هذا هو العراق الذي سيتركه الجيش الأميركي بعد ثماني سنوات من الاحتلال.