صباح كنعان

الإدارة الأمريكية منهمكة حالياً في التفاوض مع بغداد حول بقاء ldquo;بعضrdquo; القوات الأمريكية في العراق بعد نهاية ،2011 ما يعني أن الرئيس باراك أوباما مستعد للإخلال بوعده للأمريكيين بانسحاب ldquo;كاملrdquo; . ويثير ذلك اهتماماً واسعاً والكثير من الانتقادات في وسائل الإعلام الأمريكية . ويقول الصحافي والمعلق في موقع ldquo;صالونrdquo; جوستن ايليوت في مقال حول الموضوع:

يدور نقاش في واشنطن الرسمية حول ما إذا كان يتعين على إدارة أوباما أن تترك أي قوات في العراق، وفي هذه الحالة كم سيكون حجمها . وهناك مفاوضات جارية بين الحكومتين الأمريكية والعراقية حول هذه المسألة، حيث إن اتفاق 2008 بينهما يقضي بمغادرة جميع القوات الأمريكية العراق بنهاية العام الحالي .

هذا النقاش الرسمي لا يتطرق إلى واقع أنه إذا ترك أوباما أي قوات في العراق، فسوف ينقض واحداً من أولى الوعود الكبرى لرئاسته . ففي فبراير/ شباط ،2009 أي في الشهر الثاني فقط من رئاسته، ألقى أوباما خطاباً حول العراق في قاعدة لوجون العسكرية بولاية كارولينا الشمالية قال فيه: ldquo;أعتزم إجلاء جميع القوات الأمريكية من العراق بحلول نهاية عام 2011 . وسوف نستكمل في ذلك الموعد نقل المسؤوليات إلى العراقيين، ونعيد جنودنا إلى الوطن مكللين بالشرف الذي استحقوهrdquo; .

والآن، يوشك أوباما على نقض ذلك التعهد . وقد تحدث مسؤولون عسكريون وآخرون في الإدارة عن ترك عدد من الجنود يتراوح بين 3000 و17000 في العراق . وحسب وكالة ldquo;أسوشيتدبرسrdquo;، لايزال يوجد في العراق حالياً 45 ألف جندي أمريكي .

وتعهد أوباما الأصلي بشأن سحب جميع القوات كان دائماً يوحي بشيء من تحويل الأنظار عن مسألة أخرى . فكما أفاد تقرير حديث العهد لصحيفة ldquo;نيويرك تايمزrdquo;، فإن مجموعات متعددة ومتنوعة من عسكريين ومتعاقدين أمريكيين سيبقون في العراق لوقت طويل بعد نهاية ،2011 بمعزل عن عدد العسكريين بالزي الرسمي الذين سيبقون هناك . وقالت الصحيفة: ldquo;حتى بينما يقوم الجيش بتخفيض عديد قواته في العراق، فإن ال ldquo;سي .آي .إيهrdquo; (وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية) ستواصل الاحتفاظ بوجود كبير في البلد، مثلها في ذلك مثل متعاقدين أمنيين يعملون لحساب وزارة الخارجيةrdquo; (الأمريكية) .

يضاف إلى ذلك طبعاً أن الولايات التحدة ستحتفظ في بغداد بسفارتها العملاقة . وقالت الصحيفة بهذا الصدد: ldquo;من بعض الوجوه، النقاش حول وجود عسكري أمريكي (في العراق) هو نقاش خطابي . فالإدارة سبق أن وضعت خططاً لتوسيع هائل للسفارة الأمريكية ولعملياتها، بدعم آلاف من المتعاقدين الأمنيين شبه العسكريين . كما أنها أنشأت مكتب تعاون أمني سيوظف فيه كما هي الحال في مكاتب مماثلة في بلدان مثل مصر عاملون مدنيون وعسكريون يشرفون على تدريب وتجهيز قوات الأمن العراقيةrdquo; .

وهذا يبدو تحولاً كبيراً بالنسبة إلى رئيس بنى حياته السياسية وحملة انتخاباته الرئاسية على أساس معارضته للحرب في العراق .

خدعة انسحاب

في موقع ldquo;فورين بوليسيrdquo;، تساءل المدون ستيفان والت، بروفيسور العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، عما إذا كانت إدارة أوباما تحاول خداع الأمريكيين من خلال الإبقاء على وجود عسكري أمريكي مموه في العراق .

وقد كتب مقالاً بعنوان ldquo;قوات في العراق: من نظن أننا نخدع؟rdquo;، استند فيه هو أيضاً إلى تقرير ldquo;نيويورك تايمزrdquo;، واستشهد بفقرة من التقرير تقول:

ldquo;حتى من دون تمديد الموعد النهائي إلى ما بعد ،2011 يتوقع أن يكون مكتب التعاون الأمني أحد أكبر المكاتب من نوعه في العالم، حيث سيوظف فيه مئات، إن لم يكن آلاف، من العاملين . وقد جادل مسؤولون بالقول إن إبقاء جنود أمريكيين في هذا المكتب قد لا يتطلب اتفاقاً أمنياً جديداً ليحل محل الاتفاق المنتهية مدته، لأن هؤلاء الجنود سيكونون مشمولين بالحماية ذاتها التي توفر للدبلوماسيينrdquo; .

وتابع البروفيسور والت يقول:

سؤالي هو: من نظن أننا نخدع؟ بالتأكيد ليس العراقيين، الذين يستبعد أن يروا فرقاً يذكر بين جنود أمريكيين وrdquo;متعاقدين أمنيين شبه عسكريينrdquo; . وفي الواقع، سبق أن ندد التيار الصدري بهذه الخطط، ونظم مظاهرة كبرى في بغداد للمطالبة بانسحاب أمريكي كامل .

كما أننا لا نستطيع خداع بقية المتشددين المعادين لأمريكا في المنطقة، والذين يعتقدون أن الولايات المتحدة هي قوة إمبراطورية عدوانية تسعى إلى السيطرة على المنطقة بواسطة القوة العسكرية، والذين سوف يستغلون وجودنا المتبقي مهما يكن مموهاً كأداة لتجنيد أنصار مقاتلين .

وأظن أن الجواب الحقيقي عن السؤال هو أننا نخدع أنفسنا . فإذا ما سحبنا معظم الجنود، وتركنا خلفنا عاملين لدى ال ldquo;سي .آي .إيهrdquo; وآلافاً من المتعاقدين، فسيعني ذلك أننا نتظاهر بالوفاء بتعهدنا بالانسحاب من العراق . وهذا سيجعل من السهل أكثر بالنسبة إلى أوباما أن يدعي أنه أنهى حرباً لا تتمتع بالشعبية، وبالنسبة إلى الأمريكيين أن يعتقدوا أننا حققنا نوعاً من الانتصار . ولكن ما يُبَيّن زيف مثل هذا الادعاء هو طبعاً واقع أن البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) لا تزال تعتقد أنه لا بد لنا أن نترك قوات هناك من أجل ldquo;ضمان استقرارrdquo; الوضع .

غير أن هناك خطر أن نظن أننا انسحبنا من العراق بينما نحن في الحقيقة لم نفعل، وبالتالي فإننا لن نفهم لماذا كثيرون من الناس هناك (وفي البلدان المجاورة) سيستمرون في النظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها قوة لديها مخططات في المنطقة .

وجود غير ضروري

في موقع معهد ldquo;كاتوrdquo; للأبحاث، كتب المحلل كريستوفر بريبل مقالاً رأى فيه أن وجود قوات أمريكية في العراق لا يخدم مصالح أمنية للولايات المتحدة . وقال:

قبل سنوات، كتبت عمود رأي تساءلت فيه ldquo;من سيقرر متى ننسحب من العراق؟rdquo; . وبعد أكثر من خمس سنوات ونصف السنة، لانزال نجهل الجواب عن ذلك السؤال .

صحيح أننا أبرمنا اتفاقاً مع العراقيين يقضي بسحب قواتنا بنهاية هذا العام . وبحلول هذا الموعد، يفترض أن تكون جميع القوات قد غادرت، ولو أنه سيبقى هناك وجود دبلوماسي كبير، يشمل ربما آلافاً من المتعاقدين الأمنيين . وقد أشرف جورج بوش على المفاوضات بشأن ذلك الاتفاق، ثم مرره إلى خلفه . وعندما خفض باراك أوباما عديد القوات إلى أقل من 50 ألفاً خلال الصيف، تمهيداً لإنجاز الانسحاب الكامل بنهاية العام، فهو لم يكن يفعل سوى تطبيق سياسة سلفه . ومن غير الإنصاف اتهامه بأنه فعل أي شيء غير ما كان سلفه سيفعله، وإن كان خطأ بالنسبة إلى أوباما أن ينفذ سحب قوات، فهذا سيعني أن بوش أخطأ عندما تفاوض حول الانسحاب .

ولكن هل من الممكن أننا لن ننسحب حقاً؟ تتحدث تقارير عن تأييد وزير الدفاع ليون بانيتا لإبرام اتفاق مع العراقيين حول بقاء 3000 - 4000 جندي بصفة مدربين بعد موعد نهاية العام .

إن الأمريكيين القلائل الذين لا يزالون يولون اهتماماً للعراق لا يمكن أن يؤيدوا مثل هذا الاتفاق . فنحن سئمنا منذ وقت طويل هذه الحرب المهلكة والتي لا جدوى منها . والذين تزعموا في البداية حملة التهليل لغزو العراق قالوا إن هذا الغزو سيكون نزهة سهلة، وإن الأكلاف ستغطى بواسطة عائدات البترول العراقي وليس بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين . إلا أن الحرب استهلكت نحو 800 مليار من دولارات دافعي الضرائب الأمريكيين، وحصدت أرواح أكثر من 4400 جندي أمريكي، وخلفت آلافاً عديدة من الجرحى . وأكلاف رعاية هؤلاء الجرحى وتجديد الأعتدة الحربية ستزيد على الأرجح عن تريليون دولار إضافية .

أوليس ذلك عبئاً ثقيلاً؟ يبدو في الظاهر أنه ليس كذلك . فقد أصيب بعض من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي بالهلع عندما علموا أن الإدارة تنظر في سحب القوات وليس في إبقائها في العراق . ثم عندما علم الأعضاء ديان فينشتاين، وجوزيف ليبرمان، وجون ماكين، وليندي ساي غراهام، أن الإدارة تحاول إبقاء بعض القوات بعد نهاية العام، اشتكوا من أن الأرقام المتداولة ليست كافية، وقد ادعوا أن الابقاء على مثل هذا العدد القليل من القوات سيعرض للخطر المكاسب الهشة التي تحققت في العراق خلال السنوات القليلة الماضية، كما سيعرض القوات القليلة العديد التي ستبقى لأذى كبير .

وهذه النقطة الأخيرة قد تكون صحيحة . ولكنني لا أفهم لماذا تحديداً إبقاء 3000 جندي، وليس أكثر أو أقل . إلا أن المسألة الجوهرية هي أن وجوداً في العراق أي وجود ليس ضرورياً . وبوش ارتكب أخطاء في العراق، بدءاً من قرار الغزو . وقد أصاب عندما قرر أنه ينبغي إنهاء المهمة في العراق . فالبقاء في ذلك البلد إلى ما لا نهاية لا يخدم المصالح الأمنية للولايات المتحدة .

في الوقت الذي كتبت فيه عمود الرأي السابق، في أوائل ،2006 أشرت إلى تشديد الرئيس بوش على أننا سنبقى في العراق فقط طالما أن العراقيين يريدوننا هناك، وتكهنت بأن العراقيين هم الذين سيقررون في النهاية ما إذا كنا سنبقى أم نرحل . ومن الممكن أن بوش راهن على أن العراقيين لن يطلبوا منا أن نرحل، على الأقل ليس فورياً، في حين أن معطيات استطلاعات الرأي في ذلك الوقت أوحت بأن رهان بوش كان آمناً .

ولكنه لم يعد كذلك الآن . وإذا كان البعض هنا في الولايات المتحدة مستعداً للموافقة على بقاء قوات أمريكية في العراق، إلا أن قلائل جداً فقط من العراقيين يوافقون .

واليوم، ما من رئيس أمريكي سيرهن أمن الولايات المتحدة بهوى ديمقراطية برلمانية وليدة هشة تطفح بمشاعر العداء لأمريكا . ونحن ما كنا أصلاً لنترك مثل هذا القرار بأيدي العراقيين لو كان البقاء هناك حيوياً حقاً لأمننا القومي .

إلا أنه ليس حيوياً . وهو لم يكن كذلك أبداً . والحرب في العراق كانت حرباً اختيارية . ونحن نستطيع اختيار الرحيل . ويجب أن نفعل ذلك .