كتب: Sarah Topol

تعهد المجلس الوطني الانتقالي بأنه سيعلن هذا الأسبوع نشوء حكومة موقتة، ما أثار موجة هائلة من الخلافات السياسية وتبادل الإهانات، وتبدي معظم الفصائل الليبية احترامها لشخص عبدالجليل، ولكنها تقف اليوم أمام نظام سياسي شائب بفعل عقود من الرضوخ لنزوات حاكم مجنون، فلا أحد يريد العودة بالزمن إلى الوراء، ولكنّ أحداً لا يعرف أيضاً كيف يمكن المضي قدماً نحو عهد جديد.
عشية يوم الاثنين في 12 سبتمبر، حين ظهر رئيس الحكومة الانتقالية الليبية، مصطفى عبدالجليل، للمرة الأولى منذ أن وقعت طرابلس في يد الثوار، ثار جنون الحشود في الساحة المركزية في العاصمة، فهتفت السيدات والشابات باسمه، وحين صعد عبدالجليل- وزير الدفاع السابق في عهد معمر القذافي- إلى المنصة، دعا الشعب الليبي إلى الوثوق بقيادته الجديدة، ففي بعض الأوقات، كان يضطر إلى التوقف عن الكلام بسبب تصاعد حدة الهتافات، وكانت الألعاب النارية تُطلَق كل خمس دقائق، وكان الثوار المسلحون التابعون لألوية طرابلس يحرسون المنصة من ضغط الحشود الحاضرة.
غير أنّ خطاب عبدالجليل لم يكن شبيهاً بالاستعراضات المسرحية التي يقدّمها كبار النجوم المشهورين، لقد كان مضمون خطابه خجولاً نسبياً، إذا افترضنا أنّ أحداً بين الحشود أصغى إليه أصلاً! طلب عبدالجليل من الحشود أن تثق بقيادته الجديدة، وشدد على أهمية الوحدة الوطنية، وشكر الثوار الذين حرروا البلد، ولا عجب في أنه حذّر السامعين من تهميش أعضاء النظام السابق، نظراً إلى تاريخه الخاص، لذا دعاهم إلى مقاومة رغبتهم في الانتقام للجرائم التي ارتُكبت في عهد القذافي.
وأضاف: ldquo;إذا قررنا الاستعانة بأشخاص من النظام القديم، فيعني ذلك أننا نثق بهم، ولا تظنوا أننا نرنكب خطأً بذلكrdquo;، وقدّم خطاب عبدالجليل نظرة صادقة عن المشاكل التي تواجه حكومته الناشئةndash; إنها المشاكل التي طغت على تغطية الحرب الأهلية في ليبيا خلال الأيام الأخيرة، في الوقت الذي يتابع فيه القذافي الهروب ويتابع قادة المجلس الوطني الانتقالي التجادل علناً.
منذ أسبوع تقريباً، تعهد المجلس الوطني الانتقالي بأنه سيعلن هذا الأسبوع نشوء حكومة موقتة، ما أثار موجة هائلة من الخلافات السياسية وتبادل الإهانات، وتبدي معظم الفصائل الليبية احترامها لشخص عبدالجليل، ولكنها تقف اليوم أمام نظام سياسي شائب بفعل عقود من الرضوخ لنزوات حاكم مجنون، فلا أحد يريد العودة بالزمن إلى الوراء، ولكنّ أحداً لا يعرف أيضاً كيف يمكن المضي قدماً نحو عهد جديد.
في المجالس الخاصة، يصف المسؤولون المقرّبون من المجلس الوطني الانتقالي التصدعات التي ظهرت بين كبار القادة العسكريين والمسؤولين السياسيين، إذ بدأت حدة التوتر بين الليبراليين المدعومين من الغرب والإسلاميين المحليين تتصاعد، ويتعزز هذا التوتر بفعل مخاوف المجتمع الدولي من أن تقوم جماعات إسلامية مقاتلة بإهدار إنجازات الثورة، فعلى قناة ldquo;الجزيرةrdquo;، وبعد ساعة فقط من خطاب عبدالجليل، قام علي الصلابي، رجل دين إسلامي له شعبية واسعة، بانتقاد المجلس الوطني الانتقالي واعتبر أنه يتألف من ldquo;علمانيين متشددينrdquo; وحذر من أنهم سيقودون البلد إلى ldquo;حقبة جديدة من الاستبدادrdquo;، ويرتبط الصلابي بعلاقات مع القائد العسكري في طرابلس عبدالحكيم بلحاج الذي قاد سابقاً الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، وهي جماعة مقاتلة على ارتباط بـrdquo;القاعدةrdquo;.
ثم برزت الانقسامات بين القيادة التي أمضت معظم فترات الانتفاضة في مدينة بنغازي الآمنة نسبياً بعد أن وقعت تحت سيطرة الثوار، والأشخاص الذين حاربوا في ساحات المعارك لتحرير المدن الليبية. كذلك، بدأت الخصومات بين مختلف المناطق تعود إلى الواجهة، إذ يطالب المقاتلون في مصراتة والجبال الغربية وطرابلس بالإشادة والتقدير كونهم هم من صنعوا الثورة، لكن في المقام الأول، يبدو أن الجميع يريدون تسوية أمورهم مع رئيس الوزراء الفعلي محمود جبريل، مع أنه في الواقع نائب عبدالجليل ووزير الخارجية أيضاً.
جبريل هو رجل آخر من الموالين السابقين للقذافي، وقد أدى تعيينه على رأس الحكومة الجديدة إلى استياء بعض أعضاء المجلس الوطني الانتقالي واللجنة العسكرية العليا. من الواضح أن هذا الزعيم الذي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة يتماشى مع توجهات الحكومات الغربية، غير أن بروده وقلة تقديره للمقاتلين المحليين أزعجا بعض الناس في الشارع الليبي، إذ سبق واتُّهم أصلاً بتعيين عدد مفرط من مسؤولي النظام القديم في مناصب عليا، وتمضية الكثير من الوقت خارج البلد، وعدم التزامه بجميع وعوده المتعلقة بجمع المساعدات الخارجية.
قال محمد الفورتية، مستشار سياسي لثوار مصراتة النافذين والمدرّعين بالأسلحة: ldquo;لا أستطيع التعبير عن رأيي بجبريل أمام الصحافة. تكثر الأمور السلبية بشأنه ولكنه مشهور الآن وقد تقبّلته حكومات العالم، ولكنه يواجه مشاكل مع أعضاء الحكومة، مثل فصائل الإسلاميين والجيش، فضلاً عن شخصيات بارزة في المجلس الوطني الانتقالي نفسهrdquo;.
اكتفى الفورتية بهذا القدر من الكلام، لكن تحدث أعضاء آخرون من المجلس الوطني الانتقالي بصراحة أكبر في مجالسهم الخاصة، فقال أحدهم: ldquo;جبريل يعيّن أفراداً من عائلته ورجال أعمال من معارفه في المناصب العليا، وهذا ما كان يفعله القذافي تحديداً وهذا ما لا نريدهrdquo;، كذلك، تحدث هؤلاء الأعضاء عن عارف نايض، السفير الليبي في الإمارات العربية المتحدة ورئيس ldquo;فريق استقرار ليبياrdquo;، باعتباره أحد الأشخاص الذين حصلوا على مكافأة مجانية كونه موالياً لجبريل، وتذمر آخرون من أن جبريل يسعى إلى السيطرة على حسابات القذافي المجمّدة، وقد بدأت بعض البلدان مثل هولندا وإسبانيا بإعادة تلك الأموال إلى المجلس الوطني الانتقالي. وأضاف أحد المسؤولين: ldquo;إذا فعل ذلك، فسيكون أقوى رجل في ليبيا حتى لو لم يشغل منصباً رفيعاً، لأنه سيفرض سيطرته على جميع الذين يتولون المناصب العليا وسينجح في وضع يده على معظم المبالغ الماليةrdquo;.
في بداية شهر سبتمبر، تعهد المجلس الوطني الانتقالي، بعد إعلان تحرّر ليبيا، بأن يشكّل حكومة موقتة لإدارة شؤون البلد طوال ثمانية أشهر قبل إجراء الانتخابات، لكن سيكون جميع أعضاء الحكومة الموقتة الأولية غير مؤهلين للترشح لمناصب في الحكومة الليبية المنتخبة، لذا شعرت النخبة السياسية الجديدة بالقلق بعد الإعلان عن تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة في الأسبوع الماضي، من دون الإعلان الرسمي عن ldquo;تحرير البلدrdquo;، ومع الاكتفاء بعرض خطط مبهمة عن طريقة إنجاز هذه الاستحقاقات.
في هذا السياق، قال محمد الفورتية: ldquo;لا نعرف الآلية التي ستُعتمَد لتشكيل هذه الحكومة الموقتة، وكيف سيختارون الأشخاص؟ هل حصلوا على سيرتهم الذاتية؟rdquo;.
عبّر عناصر من الجيش أيضاً عن معارضتهم لقيادة جبريل، بينما حاولت الحكومة المدنية السيطرة على مختلف الألوية المسلّحة التي تمركزت حول العاصمة، فلم تستجب الوحدات للدعوات التي تطالبها بالعودة إلى ديارها، فترفض الألوية في مصراتة- بما في ذلك بعض أشرس المقاتلين المحليين- مغادرة مواقعها إلى أن تقتنع بأن طرابلس أصبحت آمنة، بغض النظر عن رأي المجلس الوطني الانتقالي أو لجنة طرابلس العسكرية.
يعترف محمد الفورتية بكل فخر بأن الكتائب في مصراتة لا تنصاع للأوامر، فيقول: ldquo;هي لن تغادر مواقعها إلا إذا ساد الاستقرار في طرابلس. لقد أخبرتُ وزير الشؤون الداخلية بما يلي: حين تبدؤون ببناء الشراكات والمؤسسات وحين نشهد على انتشار الشرطة، يمكننا الرحيلrdquo;.
يهدد هذا الانقسام بزعزعة استقرار كيان المجلس الوطني الانتقالي بأكمله، فيوم الثلاثاء، قال لي عضو رفيع في لجنة طرابلس العسكرية: ldquo;في الأسابيع الأخيرة، حاول جبريل بكل جهده تعيين أشخاص كانوا مقربين جداً من نظام القذافي ويتولون مناصب عليا في عهده. هو يحاول بناء شراكة قوية جديدة مع الأشخاص الذين حاربنا لإسقاطهم طوال الأشهر الستة الأخيرةhellip; لا يمكن أن نسمح لجبريل بتولي دور القيادةrdquo;.
نُظّمت بعض الاحتجاجات العامة المحدودة في طربلس لانتقاد قيادة جبريل، وأخبرني عضو اللجنة العسكرية بأنها الخطوة الأولى وستتبعها مبادرات أخرى، وتعليقاً على المجلس الوطني الانتقالي، تابع قائلاً: ldquo;نحن نقدّر عمله ولا نريد إعاقته، لكن يقول معظم الناس إن الوضع وصل إلى حدّه، فلا يمكننا أن ندع بضعة أشخاص يقررون مستقبل الشعب الليبيrdquo;. بحسب قوله، من المنتظر أن تنشأ تظاهرات حاشدة في وقت لاحق من هذا الأسبوع.
لكن ينكر المجلس الوطني الانتقالي من جهته وجود أي مشكلة، ففي هذا الإطار، قال المتحدث باسم المجلس جلال الجلال: ldquo;لا وجود لأي انقسامات. إنها مجرد خلافات عابرة داخل اللجنة التنفيذية. الخلافات عامل صحي في الأنظمة الديمقراطية، ويجب ألا نوافق جميعاً على الخطوات المقبلة، بل يجب أن تتحاور جميع الأطراف، من الفئات والأحزاب كافة، وأن تتوصّل إلى حل عن طريق العملية السياسية، فلا وجود لأي شرخ، والأمر يقتصر على طرح مقاربات مختلفة لتحقيق الأهداف نفسهاrdquo;.
لكن في حال اندلاع التظاهرات الحاشدة، فستخضع مصداقية ديمقراطية الحكومة الجديدة لاختبار صعب، وينطبق الأمر نفسه على مصداقية عبدالجليل كزعيم للعهد الجديد، ووفق بعض المصادر الداخلية، كان جبريل يحاول التقرب من عبدالجليل طوال سنوات، وقد سعى إلى تملق وزير العدل السابق حتى في عهد نظام القذافي ودعم أيضاً ترشحه لرئاسة المجلس الوطني الانتقالي على أمل الاستفادة من الخدمات السياسية على المدى الطويل.
كذلك، يبدو أن أحداً لا يشعر بالحماس تجاه أيٍّ من الرجلين ولا تجاه الحكومة التي يُفترض أن تقود هذا البلد الناشئ نحو مستقبل ديمقراطي جديد، وفي هذا الإطار، قال أحد المسؤولين: ldquo;عبدالجليل يستطيع تنحية جبريل بكل سهولة، فعبدالجليل هو في الأساس رجل صالح ولديه نوايا حسنة، لكن تكمن مشكلته في أنه ساذج على المستوى السياسي ولا خبرة لديه في المجال الإداري، أما الخطأ الأكبر، فهو أن جبريل يعيق عمله، وهو يوليه ثقة عمياءhellip; لقد تم اختراقنا من عناصر تابعة للقذافي، حتى في هذه المرحلة، وكل من يقول عكس ذلك يكذّب الوقائعrdquo;.