صنعاء - صادق ناشر


غاب الحوار فحضرت البنادق، بهذا يمكن تلخيص ما يشهده اليمن هذه الأيام من تطورات، خلفت وراءها ركاماً من الأسئلة عن المآل الذي ستؤول إليه الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإسقاط النظام ورحيل الرئيس علي عبدالله صالح بعد سبعة أشهر من انطلاقتها؟

باستثناء بصيص الأمل الذي لا يزال معلقاً بالمبادرة الخليجية لحل الأزمة في اليمن، لا توجد أي مؤشرات يمكن أن تمنح المراقبين تفاؤلاً بانتهائها بعدما طالت واستفحلت، وتحولت إلى كرة ثلج تكبر شيئاً فشيئاً كلما تدحرجت إلى الأسفل، فأطراف الأزمة يؤكدون أنهم مع الحل السلمي، فيما طرف واحد، على الأقل قد اختار طريقاً بديلاً، الطرف الذي قرر نقل المعركة إلى الميدان، أي إلى مباشرة القتل والدمار في ساحات التغيير والحرية .

في الأيام القليلة الماضية نطقت المدافع أكثر من أفواه السياسيين، وترجمت هذه المدافع نفسها على الواقع بسقوط العشرات من القتلى والمئات من الجرحى في نسخة مكررة من مجزرة ldquo;جمعة الكرامةrdquo; التي شهدتها العاصمة صنعاء في الثامن عشر من شهر مارس/ آذار الماضي، حيث قتل حينها نحو 52 شخصاً من الشباب المعتصمين في ساحة التغيير .

لم تتغير العقلية التي تدير الأزمة في البلاد، على الرغم من القتلى الذين يتزايدون يوماً بعد آخر، إلا أن النظام لا يزال يراهن على عامل القوة العسكرية لحسم الصراع مع خصومه الذين يرون في الحل السلمي مخرجاً للأزمات التي تتوالى على اليمن منذ سنوات طويلة .

لقد ناور النظام خلال الأشهر التي تلت اندلاع الاحتجاجات الشعبية من خلال إيهام الآخرين أنه قادر على لعب دور المنقذ للأوضاع المتدهورة في البلاد من خلال التجاوب مع المساعي العربية والدولية لتطبيق المبادرة الخليجية التي كانت بطلب من الرئيس علي عبدالله صالح، إلا أن الأوضاع اللاحقة أكدت أن النظام استمرأ اللعب على التناقضات والخلافات، وقرر أن يسير في الطريق الذي يجيده، وهو العنف الذي ترجمه على الأرض خلال الأيام القليلة الماضية، وبالتالي أراد أن يدفن المبادرة الخليجية بطريقته الخاصة، فهو لا يرفض المبادرة، لكنه في الوقت نفسه لا يريد أن يطبقها .

بعد المجازر التي وقعت خلال الأيام القليلة الماضية، وجد النظام نفسه غير قادر على بلع الحل السلمي، فقرر أن يترك بصمته قبل رحيله، فأقدم على قتل المتظاهرين السلميين في شارع الزبيري، وكانت المجازر التي ارتكبت مؤخراً أكثر بشاعة من تلك التي تم ارتكابها خلال مجزرة ldquo;جمعة الكرامةrdquo; ومجازر عدن وتعز وأرحب وغيرها من المناطق خلال الأشهر الأولى من اندلاع شرارة الاحتجاجات المطالبة بالتغيير .

وبدا أن النظام أراد أن يهرب من استحقاقات المبادرة الخليجية إلى وسيلة أخرى، حيث اقتنع أن العنف هو الطريق الوحيد للتعامل مع الاحتجاجات، وهذا في الحقيقة ليس جديداً على نظام استمرأ المراوغة ضد كل من يخالفه الرأي .

لقد سقط قتلى وجرحى جدد في المواجهات الأخيرة لينضموا إلى المئات الذين سقطوا في الأشهر القليلة الماضية، أي منذ بدء الاحتجاجات في شهر فبراير/ شباط الماضي، فعلى الرغم من أن الرئيس علي عبدالله صالح كان يصرح مراراً وتكراراً أنه مع مطالب الشباب، إلا أن القتل الممنهج الذي تشهده ساحات التغيير في أكثر من منطقة يؤكد أن هذه المطالب هي في آخر سلم أولويات النظام .

ما الذي يجنيه النظام من استمرار العنف، ولماذا يصر على معالجة الأزمة بالمزيد من العنف والخراب والدمار، وهل الطرف الآخر لديه القدرة على مجاراته في هذا الأمر؟

يخطئ من يظن أن خروج الشباب بشكل سلمي في الساحات يمكن أن يغير قناعة النظام بأن هذا هو الطريق الوحيد للتغيير، لقد حاول الشباب طوال الأشهر السبعة الماضية أن يؤسسوا لوضع جديد يصبح فيه الحل السلمي ممكناً، إلا أن النظام قرر السير في الاتجاه المعاكس، وبالتالي أخرج كل ما في جعبته من أسلحة، حتى يواجه الخطر المقبل من حركة الشارع الذي انتفض بشكل كبير خلال الأشهر القليلة الماضية، وأراد أن يؤسس لتجربة مختلفة في تغيير أنظمته .

لقد استخدم النظام كل ما يملك من أجل أن يكبح جماح التغيير، إلا أنه فشل في ذلك، فقرر السير على الطريق التي سارت عليه أنظمة سابقة رفضت الاتعاظ من التاريخ وأحكامه وسننه، فكانت النهاية لهذه الأنظمة سيئة، وأراد النظام اليمني أن يعيد الإمساك بزمام الأمور التي انفلتت مع الأسابيع الأولى للثورة في البلاد، إلا أنه عجز عن ذلك بعدما خرج الشباب إلى ساحات الحرية في كل مناطق البلاد للتعبير عن رغبة في حصول تغيير حقيقي في حياتهم .

مخاطر العنف

كان على النظام أن يعمل على إعادة قراءة ما جرى في كل من مصر وتونس، حتى لا تتكرر المأساة في اليمن، إلا أنه استمر في الطريق نفسه الذي سار فيها النظامان التونسي والمصري، مع ما يحمل ذلك من مخاطر ملغومة تهدد مستقبل البلاد بأسرها، لقد كان من الممكن أن يتعامل النظام مع المطالب الشعبية بنوع من التوازن وأن يخلق طريقة أخرى من التعامل مع الحركات الاحتجاجية التي انطلقت في كل مكان، ولديها تصميم في عدم التراجع .

استخدام النظام لوسائل القمع في مواجهة مطالب الناس في التغيير كان هو الخطأ الأكبر الذي وقع فيه النظام خلال الأحداث الأخيرة، حيث أوغل في الدم، لدرجة أصبح فيه الحل السياسي غير ممكن من دون دفع تكاليف باهظة، نظراً لأن الوسيلة التي اتبعها النظام منذ البداية لم تكن تسمح بإيجاد بديل آخر .

لقد استمرأ النظام هذا الأسلوب واعتقد أنه الوسيلة الناجحة لتحقيق السيطرة على الأوضاع التي باتت تتدهور مع كل استخدام مفرط للقوة، وتحول النظام وأجهزته إلى غول من الصعب السيطرة عليه، بخاصة بعد أن أطلق النظام اليد للبلاطجة ليفعلوا بالناس ما يريدون، كما أن التعامل السياسي الفج مع المبادرات التي وضعت، سواء من الداخل أو الخارج أضاف إلى الأزمة المعقدة أصلاً تعقيدات إضافية .

العنف الذي مارسته قوات الأمن العسكرية والأمنية ولّد حالة مختلفة من النقمة لدى المحتجين، بل إنه زادهم إصراراً على مواصلة النهج الذي بدأوا به، وهو نهج التغيير السلمي، إذ إن هذا النهج هو الوسيلة الصحيحة والطبيعية لأي تغيير حقيقي في البلاد، لكن النظام استمر في التمادي بقتل أي نوازع سلمية لدى المحتجين، فأدخل عامل المواجهات المسلحة مع الجميع وفي كل مكان .

لقد خاض النظام العنف في كل ساحات التغيير في العاصمة صنعاء ومختلف المدن، إضافة إلى المعارك مع رجال القبائل في أرحب، كما اختار المواجهات مع حماة الثوار في محافظة تعز، أي أنه اختار أن تكون هناك طريقة مختلفة مع الاحتجاجات التي سادت البلاد وبالطريقة التي يراها صحيحة .

اليمن إلى أين؟

يرى الكثير من المراقبين أن الأوضاع باليمن في طريقها للتدهور أكثر وأكثر واحتمال انزلاقها إلى حرب شاملة غير مستبعدة، خاصة مع التصعيد الكبير الذي تقوم به السلطة لجر المحتجين إلى ساحة العنف بأي شكل من الأشكال .

ويرى هؤلاء أن البلد ذاهبة نحو منزلق ومنعطف خطر، وأنه إذا لم تتدارك كل الأطراف الأمر بشكل عاجل فإن ذلك سيكون مقدمة لوضع أسوأ مما كان عليه الوضع قبل الاحتجاجات، وقد تدخل البلاد في مستنقع القتل والدمار والخراب وربما التفتيت وخلخلة دعائم الوحدة والاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي .

ويشير المراقبون إلى أنه ليس من المقبول أن تواجه السلطة المتظاهرين العزل بالرصاص مهما كانت الذرائع والأسباب إلا إذا كانت تريد جر اليمن إلى مستنقع القتل والدمار، إن ما حدث بصنعاء أمس من قتل متعمد لا يجب السكوت عليه لأن مثل هذه التصرفات تنطوي على مخاطر ومحاذير وتؤكد أن النظام لا يريد أي حوار مع المعارضة وإنما يريد جرها للدخول في حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس .

ولكن هل يقبل النظام بمراجعة حساباته؟

يؤكد الكثير من المراقبين أنه من الواضح أن نظام الرئيس صالح لايزال يتمسك بمواقف متشددة وأن إعلان قادة حزبه أنه لن يتخلى عن السلطة إلا بعد الانتخابات المقبلة، يؤكد أن النظام لم يقبل بالمبادرة الخليجية وإنما يستخدمها لكسب الوقت فقط وأنه ليس مستعداً للتنازل عن السلطة لنائبه وأن مايقوله هو للاستهلاك السياسي فقط، وأن قمع المتظاهرين وقتلهم بالصورة الوحشية بشكل يومي، يؤكد ذلك بالأدلة والقرائن، والحقائق التي أصبحت واضحة للشعب اليمني وأشقاء وأصدقاء اليمن .

لقد أثبتت الأحداث أن التطورات التي حدثت بصنعاء ومواقف الرئيس صالح بدرجة رئيسة والحزب الحاكم تؤكد أن حل الأزمة اليمنية أصبح بعيد المنال وأن اليمن في طريقه نحو الهاوية وأن المطلوب من الثوار توحيد صفوفهم ومواجهة النظام بمزيد من ضبط النفس خاصة أن هذه الأحداث قد كشفته وعرته أمام الشعب اليمني وأمام العالم أجمع وأكدت أنها تبطن غير ما تظهر .

النهايات المؤلمة

لقد وضع النظام الجميع في زاوية ضيقة، وهو بهذه الطريقة يريد أن يخرج بالطريقة التي يريدها هو لا التي يريدها المنطق والواقع، وأكدت الأحداث الأخيرة أن الرئيس صالح برفضه مراراً التوقيع على المبادرة الخليجية والرهان على الحسم العسكري هو الطريق الوحيد للحل، وقد أثبت ذلك في الميدان، بعدما اتخذت قوات الأمن زمام المبادرة بالتعامل الفج مع المتظاهرين خلال الأيام القليلة الماضية والتملص من المبادرة الخليجية بطريقة توحي أن النظام لا يزال يناور على عامل الوقت من أجل حل الأزمة .

ويبدو أن النظام قد اختار الطريق الذي يحذر الكثير من السير فيه، وهو طريق الحسم العسكري، الذي من الممكن أن يؤدي إلى حرب شاملة يمكن أن تقود البلاد إلى التفتت، ولطالما كان الرئيس صالح يتباهى بأنه من قام بتوحيد شطري اليمن ويعتبر دولة الوحدة من أهم الانجازات التي تحققت في تاريخ اليمن الحديث وتاريخه شخصياً، إلا أن الأحداث الأخيرة تؤكد أن السير في الطريق الوعر، هو الوسيلة الوحيدة للبقاء في الحكم .

إن تاريخ اليمن كله مهدد بالضياع في حال لم يضع النظام مصلحة البلد قبل أي شيء، كما أن على الأطراف السياسية في الداخل والخارج إعطاء إشارات على مرونة أكثر في ما يتعلق بمستقبل اليمن بعد التغيير، ذلك أن القوى المقبلة التي ستستلم الحكم ستكون خليطاً من الأحزاب السياسية والدينية وغيرها، وعليه فإن تحديد هوية النظام المقبل مهم لمعرفة كيف سيكون اليمن خلال مرحلة ما بعد التغيير .