علي محمد فخرو

أوحت لي زيارة قصيرة للولايات المتحدة الامريكية قمت بها مؤخراً بخاطرتين يمكن الاستفادة منهما من قبل شباب ثورات وحراكات الربيع العربي التي تجبًّ السًّير في طريقها نحو المستقبل، متقدمة أحياناً ومتراجعة أحياناً أخرى، كأية سيرورة ثورية تاريخية كبرى.
الخاطرة الأولى تتعلق بجدلية الحرية من جهة والمساواة والعدالة من جهة أخرى في مكوٍّنات ما عرفت عبر سنين طويلة بالديمقراطية الليبرالية. فامريكا التي فاخرت العالم بأنها مهد الحريات الديمقراطية وراعيتها، وبالأخص الحريات الفردية التي طوَّرتها ووسَّعت آفاقها إلى حدود الجنون والابتذال بين الحين والآخر ... امريكا هذه تعيش اليوم كل مشاكل إهمال عنصري المساواة والعدالة في ممارسة الديمقراطية الامريكية. يكفي أن يستمع ويشاهد الإنسان وسائل الإعلام غير المملوكة من قبل كبار الأغنياء وأمثال مردوخ، ولا تابعة لمؤسسات ثالوث المال والصناعة والمؤسسة العسكرية الامريكية حتى يدرك حجم وشدَّة قساوة ما يعانيه الملايين من فقراء أمريكا ومهمَّشيها والعاطلين عن العمل ومشردَّي الشوارع، وعلى الأخص من السُّود ومهاجري امريكا الجنوبية.
مثل هذه الديمقراطية الليبرالية الكسيحة العمياء هي التي يجب أن تتجنَّبها الثورات العربية فيما بعد الإطاحة بالطُّغاة والفاسدين. ذلك أن بعض المنابر الإعلامية العربية، بصورة مقصودة أحياناً وبجهالة أحياناً أخر، تتعمُّد التركيز كثيراً على مطالب الحرية من قبل ثورات الربيع العربي وعلى الأخص السياسية والشخصية منها، ولكنها نادراً ما تتحدث عن أهمية تحقق المساواة القانونية والاقتصادية وعدالة توزيع ثروات المجتمع المادية والمعنوية والرَّمزية، ولا عن أهمية وجود وبناء السلطة الحامية لكل ما يتحقق، سلطة الجماهير الشعبية سواء المنظَّّّّّّّمة في مؤسسات أو غير المنظَّمة، ولكنها واعية وشديدة المشاركة في الحياة العامة.
تمكين الشعب من ممارسة السلطة، وهو الذي تعترف له جميع الدساتير الديمقراطية بحقٍّ إمتلاك تلك السلطة لوحده ودون غيره، يجب أن يكون ممارسة ليست موسمية كالمشاركة في هذه الانتخابات أو تلك، وإنَّما ممارسة يومية بألف شكل وشكل. عند ذاك، وعند ذاك فقط، يمكن الضمان بأن تكون السِّياسة في أرض العرب مغموسة في ثلاثي الحرية والمساواة والعدالة .
ولذلك، وكمثل على ما نعني، فان اختزال الثورات العربية بالنسبة لحصاد نتائج تلك الثورات من قبل المرأة العربية، اختزالها في تمتًّعها بالحرية الشخصية في قضايا الزواج والطلاق واللباس والعمل وممارسة الأنشطة العادية اليومية إنما يبتذل تلك الثورات ويشغلها من الشعارات الكبرى الأربعة: الحرية والمساواة والعدالة وتمكين الشعب بمجمله.
الخاطرة الثانية تتعلق بقيام مؤسسة أو عدة مؤسسات إعلامية تعتمد في تمويلها في الإساس على التبرعات الصغيرة المتواضعة من قبل الأفراد العاديين أو المؤسسات المجتمعية الصغيرة المتعاطفة مع الناس ومع حقوقهم. في الولايات المتحدة الامريكية هناك مثل هذه المؤسسات كالمؤسسة الإعلامية الشهيرة المسمًّاة 'الديمقراطية الآن' وأخواتها المتناغمة معها. ولذلك فعندما تستمع إلى أو تشاهد القنوات السمعية والبصرية الامريكية الشهيرة فانك في الواقع لا تتعرف على المشاكل الحقيقية الضاربة بجذورها العميقة في التاريخ والحاضر الأمريكيين. وحتى عندما تعالجها تلك القنوات فإنها تغلًّغها بألف غلاف حتى لا تعرف أسبابها الحقيقية ولا يعرف المسؤولون الحقيقيون عن وجودها وعن تعاظمها. بينما الاستماع ومشاهدة تلك القنوات المستقلَّة إلى حدٍّ ما، وغير الخاضعة لمؤسسات المال والسلطة الكبرى، يقدم صورة أكثر نزاهة وعمقاً عن الحياة والمشاكل الامريكية.
قيام مثل هذه المؤسسات، بل وأفضل وأشجع منها، في مجتمعات ما بعد الثورات العربية الناجحة على الأخص سيكون مطلوباً بقوة في المستقبل القريب. قيامها سيضمن إبقاء الجماهير على علم والتصاق بمسيرة الثورات التي كما كرَرنا مرات كثيرة ستكون مسيرة سنين وعقود، وسيضمن أيضاً عدم اختطاف أو تشويه أو حرف الثورات من قبل مراكز إعلامية مشبوهه أو مختفية تحت ألف قناع وقناع من الانتهازية السياسية والقيمية. قيام مثل هذه المؤسسات هو تحدٍّ لشباب الثورات ولمن يدَّعون مساندة جهودهم وتضحياتهم المباركة من أفراد ومؤسسات عبر الوطن العربي كلٍّه.