رغيد الصلح

في خضم الصراع المتفاقم على مصير المنطقة العربية تظهر الحكومات الغربية حرصاً شديداً على دور جامعة الدول العربية وعلى صدقيتها وعلى تمكينها من تنفيذ قراراتها . ففي عرض لموقف الولايات المتحدة تجاه الثورة الليبية، قالت سوزان رايس، مندوبة واشنطن الدائمة في هيئة الأمم المتحدة، إن الإدارة الأمريكية ldquo;تلقت طلباً من الجامعة العربية، وبصورة خاصة وغير معتادة، أن يعمل مجلس الأمن على تشكيل منطقة حظر للطيران لحماية المدنيين الليبيينrdquo;، وأنه في ظل طلب الجامعة اتخذ الرئيس أوباما قراراً بالمشاركة في تنفيذ هذا القرار . هذا كان موقف الحلف الأطلسي أيضاً إذ أعلن أمينه العام أندرس راسموسن أن دول الحلف لم تقدم على المشاركة في تنفيذ قرار الحظر والخطوات اللاحقة له إلا بعد طلب جامعة الدول العربية وموافقتها .

ولم يختلف موقف الحكومات الغربية تجاه المسألة السورية كثيراً عن موقفها تجاه المسألة الليبية . فهذه الحكومات تسلم للجامعة العربية بدورها المحوري، وهي على استعداد لتلبية ما تطلبه منها إذا ومتى طلبت منها التدخل في الشأن السوري . وبينما كان وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا يزور المنطقة العربية لتدارس أوضاعها، ولإعادة تقييم السياسة الأمريكية في ضوء المستجدات السورية والشرق أوسطية، شدد مسؤول غربي في نيويورك على أن ldquo;اللعبة الوحيدة في الساحة هي جهود الجامعة العربيةrdquo;، وأضاف أن الحكومات الغربية لن تتدخل في الصراع القائم في سوريا إلا إذا تلقت طلباً عربياً رسمياً بهذا الصدد وعبر جامعة الدول العربية .

وبعد أن وقعت الحكومة السورية بروتوكول المراقبين ذكر مسؤول في الخارجية الأمريكية أن واشنطن ldquo;تركز على تطبيق خطة جامعة الدول العربية بالكامل، ومن دون نقصان بما في ذلك ضمان حرية المراقبين العرب في الوصول إلى أي مكان في سورياrdquo; . وبدا المسؤولون في البيت الأبيض الأمريكي أكثر حرصاً من المسؤولين العرب، واندفاعاً في التمسك بقرارات الجامعة عندما صرح أحدهم بأنه إذا لم تنفذ دمشق بنود البروتوكول الموقع مع الجامعة العربية بحذافيره، فإن المجتمع الدولي سيتخذ خطوات إضافية لضمان تنفيذ قرارات الجامعة .

تثير هذه المواقف شيئاً من الدهشة لدى الكثيرين من المعنيين بأوضاع جامعة الدول العربية وبالعمل العربي المشترك والذين يعرفون تاريخ المنطقة، وتطرح العديد من الأسئلة في أذهانهم . السؤال الأهم هنا هو، هل تستمر هذه الحماسة والتجاوب الكبيران اللذان تبديهما دول الغرب تجاه الجامعة العربية وقراراتها، أم تتلاشى هذه الاندفاعات في المستقبل عندما تنظر الجامعة في قضايا وقرارات أخرى مثل القضية الفلسطينية؟

من يطرح هذه الأسئلة يعرف تماماً أن ldquo;الناتوrdquo; ليس حليفاً لجامعة الدول العربية، وأن الحكومات الغربية ليست شريكة لهذه الدول، وأنه من الطبيعي ألا تقف الأطراف الدولية مواقف إيجابية تجاه كل القرارات التي تصدرها الجامعة وفي القضايا والأمور كافة التي تعرض عليها . رغم ذلك يبقى للسؤال حول مستقبل العلاقة بين حكومات الغرب، من جهة، وجامعة الدول العربية، من جهة أخرى، مبررات مشروعة . ذلك أن هذه الحكومات لبثت تتخذ في العلن، أو في السر المواقف السلبية المتكررة تجاه جامعة الدول العربية منذ ولادتها تقريباً .

وللتأكد من هذه النقطة الأخيرة، فإنه من المستطاع الرجوع إلى كتاب ldquo;مذكرات مصطفى النحاس: ربع قرن في السياسة المصريةrdquo; . يقول النحاس زعيم حزب الوفد المصري الذي ترأس حكومة بلاده يوم توقيع بروتوكول الإسكندرية خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول عام ،1944 إن الحكومات المعنية بالغرب ردّت على تلك الوثيقة التاريخية التي تأسست الجامعة بموجبها بترتيب رحيل جميع رؤساء الحكومات العربية الموقعة عليها . ويضيف النحاس أنه لما علم أن الملك فاروق، أعدّ العدة للتخلص من الحكومة الوفدية، اتخذ أي النحاس الاحتياطات كافة لإعلان البروتوكول وإعلان تأسيس الجامعة قبل ترحيل الحكومة، لئلا يقتل المشروع في مهده .

لبث هذا الموقف خطاً ثابتاً في سياسة حكومات الغرب تجاه المنطقة . فالجامعة كانت تمثل طموحاً عربياً إلى تحقيق أعلى درجات التكتل والتعاون بين الدول الأعضاء . بالمقابل اعتبرت النخب الغربية الحاكمة أن قيام مثل هذا التكتل سوف يمكّن دول المنطقة العربية من تعزيز مواقعها التفاوضية على حساب الدول الغربية ومصالحها الجوهرية . من هذا المنطلق، عملت حكومات الغرب على إحباط وعرقلة مشاريع التعاون العربي وعلى دعم ldquo;استقلالrdquo; الدولة العربية القطرية، وترسيخ كياناتها .

تغير هذا الموقف بعد أن قامت السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الأوروبي، وازداد الإدراك في المجتمع الدولي لأهمية مشاريع التكتل الإقليمي . وإذ ترددت أصداء هذا الوعي الجديد في المنطقة العربية، تراجعت الحكومات الغربية بالتعاون مع ldquo;إسرائيلrdquo; عن موقفها تجاه الاستقلالات العربية القطرية وأيضاً تجاه فكرة التكتل الإقليمي . لم تعد تعامل الدولة القطرية كأنها ldquo;طوطمrdquo;، وتخلت عن سلبيتها تجاه الأقلمة ولكن شرط ألا تكون عربية، وهكذا اتجهت إلى إطلاق مشاريع للتعاون الأوسطي والمتوسطي والمينياوي (MENA REGION-Middle East amp; North Africa) تجاوزاً وإجهاضاً، مرة أخرى، لمشاريع التعاون العربي . فضلاً عن ذلك، اتجهت حكومات الغرب التي كانت تبذل جهداً ملموساً في حماية الدولة الترابية العربية من مشاريع الوحدة العربية، أو الوحدات الفرعية، إلى تشجيع وتبني مشاريع الانفصال التي دعت وتدعو إليها حركات وجماعات إثنية أو دينية، كما هو الأمر في السودان أو العراق أو شمال إفريقيا .

من يعود إلى هذا السجل التاريخي الحافل بالدلالات والمؤشرات يرى أنه ليس من السهل على الحكومات الغربية أن تغير السياسة السلبية التي اتبعتها تجاه جامعة الدول العربية، ويرجح أن يكون الموقف تجاه الأوضاع الليبية والسورية استجابة لدواع مؤقتة واعتبارات ظرفية سوف تزول في المستقبل لكي يبقى من بعدها النهج السلبي إياه تجاه مشاريع العمل العربي المشترك . ما عدا ذلك هل هناك من فائدة من هذه المواقف، رغم طابعها المؤقت؟ قد تكون هناك فائدة، إذا أمسك المعنيون بالعمل العربي المشترك بهذه المواقف المؤقتة وجعلوها أساساً لمحاسبة ومراقبة سياسة الحكومات الغربية ودليلاً جديداً على سياسة المعايير المزدوجة، والمواقف الاعتباطية التي تخلو من المنطق التي تطبقها هذه الحكومات تجاه المنطقة . ولسوف يكون مفيداً، كلما اتخذت الحكومات الأطلسية مواقف سلبية تجاه الجامعة العربية، أن نذكّرها بالحماسة غير المسبوقة والتي ذكرتها خلال الفصلين الليبي والسوري من ldquo;الربيع العربيrdquo;، وبأن التراجع عن مثل هذه المواقف سوف يضاعف من معضل افتقار السياسات الأطلسية الى المصداقية في المنطقة العربية .