عبدالوهاب بدرخان

في ثلاث من الدول التي أدركها quot;الربيع العربيquot;، ورغم اختلاف طبيعة الأنظمة، برز الإسلاميون على الخريطة السياسية الجديدة ومن خلال الانتخابات، أما الهم المشترك لإسلاميي حكومتي تونس والمغرب، وحكومة مصر لاحقاً، فهو الاقتصاد. ربما تكون الانتفاضات الشعبية، أو ما شابهها، وبمجرد وقوعها قد أوجدت حلولاً جارٍ أو سيجري اختبارها للمشكلة السياسية. ويقع على عاتق الحكومات المنبثقة من الانتخابات أن تباشر فوراً، وأن تسرع في إيجاد حلول للوضع الاقتصادي وصعوباته. صحيح أن الانتفاضات لم تعط أولوية للمطالب الاجتماعية، إلا أن هذه كانت دائماً في الخلفية المباشرة لهتافات الكرامة والحرية والتغيير، فالذين انتفضوا كانت لديهم نقمتان، سياسية ومعيشية، وقد قدموا الأولى لأنهم أدركوا أن معالجة أوضاعهم لابد أن تبدأ باجتثاث أصل العلة.
كان الأكثر وضوحاً في شركة أنظمة الاستبداد أنها لم تهتم ببناء دولة ومؤسسات إذ ان الحكم والسلطة تمحورا حول شخص الحاكم وهو لم يكن معنيا بالتفكير في ما بعده، ولا بالتداول على السلطة أو بتدافع الأجيال وتنافس الكفاءات، لم يكن مطلوبا من أحد سوى أن يتقن الولاء، صحيحا أو كاذبا، أما الأكثر التباساً في تلك التركة فهو الاقتصاد، ورغم أن الأنظمة وعت أهميته، وانه يمكن ان يكون عنصر أمان لها، بل انه إلى حد كبير صنع الأمن، إلا أنها عملت على إخضاع قواعد الاقتصاد وقوانينه ليكون أيضا من أدوات تدعيم السلطة. وبذلك ساهمت في نسيج الارتباط المفزع بين الفساد السياسي والفساد المالي، وبالتالي الأمني.
في غياب الديمقراطية أو أي شكل من أشكال الحكم المنفتح والمستند إلى مؤسسات تمثل فئات الشعب وتؤمن شيئاً من المشاركة في القرار، كانت quot;مؤسسة الفسادquot; الوحيدة الفاعلة والنشيطة، ولأنها كذلك فقد حظيت بالرعاية والحماية من المستفيدين منها على كل المستويات، وفي ما بعد غدا هؤلاء quot;جيشquot; الثورة المضادة، ففي مصر يتجدد الحديث عن quot;الفلولquot;، أو بقايا النظام المخلوع، كلما عاد التوتر إلى الشارع أو حصلت مواجهات دامية بين المحتجين وقوى الأمن. وفي اليمن، حيث لا يزال النظام يعاند السقوط رغم توقيع الرئيس على حل سياسي يقر فيه بالتنحي، أصبح معروفا أن quot;المحيطين بالرئيسquot; باتوا أكثر تصلبا منه، وهم موجودون في أعلى الهرم السياسي والعسكري كما هم موجودون من خلال quot;البلاطجةquot;. أما في سوريا فانكشف اتساع quot;مؤسسة الفسادquot; وتمددها، والأخطر أنها كانت متنبهة مسبقاً إلى ضرورة إحكام سيطرتها الأمنية على مختلف القطاعات بلا أي استثناء، ونظراً إلى الترهيب الشامل الذي مارسته وتمارسه لم يتح لأي معارضة سياسية فاعلة أن تظهر في الداخل.
كان بعض الأنظمة حرص على أن يكون له قبول دولي يدعم ما يعتقد أنه حصل عليه من quot;شرعيةquot; في الداخل، ولذلك اهتم النظام التونسي السابق بجعل اقتصاد البلاد تحت أنظار البنك الدولي وغيره من المؤسسات التي تراقب وتقدم النصح للبلدان خصوصا تلك التي تطلب قروضاً ومساعدات لمشاريع التنمية، وكان نظام بن علي يخوض حملة دعائية سنوية كلما صدر مؤشر النمو الذي يفيد بأن اقتصاد البلاد يتحسن باضطراد. ورغم أن هذا النظام بذل مجهوداً في السياحة وبعض القطاعات الإنتاجية الأخرى، واجتذب استثمارات دولية وعربية مهمة، إلا أن السطوة الأمنية واخطبوط الفساد رتب للاقتصاد التونسي مظهراً شكلياً يوحي بأنه مزدهر في حين أن مردوده يصب في جيوب عائلة الرئيس والأعوان المختارين من دون أن ينعكس على الاقتصاد نفسه أو على المستوى المعيشي لفئات الشعب.
وفي التحليل سيظهر أن الحال لم تكن مختلفة في مصر إلا في التفاصيل، وفي الأساليب التي اتبعها قطاع رجال الأعمال على إدارة اقتصاد البلاد بحيث ضمن له اثراء متواصلا وضمن للطبقة المتوسطة وما دونها تدنيا متواصلا في مواردها، وقد تشذ ليبيا في هذا المجال، فمداخيلها النفطية كانت تكفي لأن تصنع منها بلداً متطوراً إلا أن النظام أهدر الثروة في مشاريع وهمية أو تكديس الأسلحة وتوزيع الرشاوى الدولية لضمان بقائه ولم يهتم بكل ما هو أساسي لإفادة الشعب من تلك الثروة فإذا به يفتقر إلى بنية تحتية من طرق ومرافق، والى مستشفيات ومعاهد تعليم ومصانع أغذية وما إلى ذلك، وقد تبين أيضاً أن النظام وأعوانه كانوا يديرون عملياً مداخيل البلد بحيث تكون تحت تصرفهم، وها هي quot;الحكومة الثوارquot; تواجه صعوبات في استعادة الأسماء وإعادة إنشاء الجيش وتسيير المؤسسات لأن الأموال مجمدة في الخارج ولا يفرج عنها إلا بالتقسيط، وبشروط، علماً بأن هذه الشروط نفسها لا يمكن تلبيتها من دون تلك الأموال، نظراً إلى التوقعات لدى الشعب من هذه الحكومة.
لا شك أن مثل هذه التوقعات تواجه وستواجه كل الحكومات الجديدة التي دفع quot;الربيع العربيquot; بالإسلاميين إلى واجهتها، فسرعان ما سينتقل الرهان على الديمقراطية إلى رهانات على إيجاد فرص العمل، مكافحة الفساد، خفض العجز في الميزانيات، طمأنة المستثمرين.. وهذا يعني عملياً إنتاج ثقافة حكم جديدة من خلال الممارسة المباشرة. بديهي أن الإسلاميين أو سواهم لا يملكون حلولاً سحرية، لكنهم مطالبون بالنجاح حيث فشل الآخرون قبلهم وعلى مر عقود طويلة، في أي حال، هذا ما جعل الناس يقبلون على الانتخاب ولسان حالهم يقول: فلنجرب الإسلاميين لعلهم يفلحون.
لعل أخطر ما في quot;مؤسسة الفسادquot; أنها عممت ممارساتها أفقياً وعمودياً، واشتملت على التعامل مع الخارج كما مع الداخل، لذلك فإن تفكيكها سيتطلب وقتا، لكنه لن يكون مستحيلا، ثم أنه لا يستند إلى مفاهيم أخلاقية فحسب، وإنماً إلى وضع سياسات اقتصادية وتنموية صحيحة ومراعاة تطبيقها بأفضل معايير النزاهة والاستقامة. فهذا ما مكّن حزب العدالة والتنمية من نقل تركيا من بلد على شفير الإفلاس إلى اقتصاد يملك فوائض، وذلك في وقت قياسي.