محمد الرميحي

يعيب عليّ بعض الأصدقاء أنني أكتب متشائما من النتائج المحتملة لـlaquo;ربيع العربraquo;، وقد يكون هذا العيب مبررا بحسن نية، بسبب ما يرجوه هؤلاء الأصدقاء من نتائج إيجابية لهذا الحراك العربي الكبير، أو ربما بسبب آخر هو الإشارة، ولو من بعيد، إلى أنني من الناس الذين يتعاطفون مع السياق السابق من أشكال الحكم التي أطيح بها. وأريد في البداية أن أنفي تعاطفي مع السابق جملة وتفصيلا، ولكن في الوقت نفسه عدم قدرتي العقلانية على التأكد أن القادم سيكون أفضل، أو سيكون موافقا لما يتمناه كثيرون بأن تكون الحرية هي رأس الحربة التي نواجه بها مشكلات المواطن العربي المستفحلة.. لدي شكوكي في ذلك.

بعض هؤلاء الأصدقاء ينظرون إلى الأشجار، وأحاول أن أنظر إلى الغابة بأكملها، من هنا تختلف زاوية الرؤية كما يختلف الاجتهاد، فلا السابق هو الأفضل، ولكن ليس اللاحق ndash; حتى الآن على الأقل ndash; هو البديل الأجمل والأرفع. القضية كلها تخضع إلى جملة من المتغيرات لا يريد البعض أن ينظر إليها بعين نقدية، بل يستحسن النظر بعين حماسية أو عاطفية أو كلتيهما معا.

أطروحتي التي سوف أفسر بعضها مختصرة في اللاحق من الجمل، تحتمل أن يكتب فيها كتاب كامل، إلا أنني بسبب الحيز وضرورة الاختصار أجملها بالتالي:

إذا نظرنا إلى الخط الساحلي الممتد من سواحل طرابلس الغرب إلى سواحل مصر إلى سواحل شرق البحر الأبيض المتوسط الشامية، بما تشتمل عليه من بلدان عربية، ثم نظرنا أسفل الجزيرة العربية في الزاوية التي تجمع بين جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، إن نظرنا إلى كل هذه البلدان العربية، وهي بلاد اجتاحتها الموجة الأخيرة من laquo;الربيعraquo; سوف نجد أن بها من المشترك ما يلفت النظر.. فهي أولا بلاد كان يحكمها عسكر، من عسكري متسلط في ليبيا وربما كان شبه مجنون، إلى عسكري متوحد في مصر، إلى درجة رفض متزمت في تعيين نائب له، إلى عسكري قادم من قاع الترتيب العسكري في اليمن، إلى ابن عسكري لنظامه كل مظاهر العسكرية في سوريا. تلك أحد المتشابهات التي تقول لنا إن laquo;إفلاس العسكرraquo; في الحكم العربي واحد من العام والجوهري الذي يربط هذه السلسلة من أشكال الحكم.

أما المتشابهات الأخرى فهي كثيرة ولافتة للنظر، منها التوحد القاتل في القرار السياسي والاجتماعي، ومثاله الصارخ كان في ليبيا، ولكنه ليس الوحيد، ففي مصر حزب واحد انتهى بوضع سياسي على رأسه عائلة، وفي سوريا أيضا حزب واحد ينتهي بعائلة، وفي اليمن، وإن تعددت شكليا الأحزاب على الورق، فهو حزب المؤتمر الواحد الذي انتهى بعائلة. إذا أضفنا إلى كل ذلك من المتشابهات مثل بطالة واسعة بين المتعلمين، دليل صارخ على فشل برامج التعليم وفقر كفاءتها، وتدفق بشري حول المدن التي شكلت أحزمة بؤس من الفقراء القادمين من الريف والصحراء، وتهميش الآخر المختلف ونفيه، إما في السجون وإما في المنافي الخارجية، وفشل في تسيير الاقتصاد حتى غدت تلك الدول تعيش على المعونات الخارجية والمساعدات، وتوريث أو محاولة التوريث.. كل هذه الممارسات أدت إلى فشل ذريع للعسكر العرب في الحكم، والتي سوف تطال عسكرا آخرين قائمين على الحكم في بلاد عربية أخرى يعتريهم نفس الفشل. وهو فشل مركب حيث حاولت هذه الأنظمة أن تزاوج بين ليبرالية مشوهة من جهة، وحكم تسلطي انفرادي من جهة أخرى، دون تصور عقلاني لما تحتاج إليه الشعوب أو تستحقه في عالم معولم سريع التغير.

الخيار الآخر القادم الذي يطل برأسه علينا، هو الاستبدال بفشل العسكر تصورات آيديولوجية لها بريق تاريخي أو تحاول أن تستعين بتراث تاريخي ولكنه منقطع الصلة بالحاضر.. في زمن تعاني الرأسمالية الغربية من أمراض مزمنة جعلت من مظاهرات في شوارعها مثل ميادين المعارك الجماهيرية من نيويورك مرورا بأثينا دون أن نتجاوز باريس أو روما.

فالخيار الآيديولوجي الذي نشأ بعد الحرب العظمى وبعد الكساد الكبير في الغرب يتعرض لهزة عميقة تكاد تعصف بأركان الليبرالية الغربية كما عرفت، ويتطلع الغرب بانشداه إلى بلاد مثل الصين زاوجت بين مركزية الدولة والنمو الاقتصادي المطرد، طبعا الذي سوف يؤدي ndash; عاجلا أو آجلا ndash; إلى تفكيك الآيديولوجيا لصالح قوى السوق.

أمام تلك الخيارات الصعبة يقف القادمون الجدد إلى الحكم في البلاد العربية، الذين وصلوا بالفعل ndash; جراء laquo;الربيع العربيraquo; ndash; أو المقدر لهم الوصول، يقفوا أمام المعضلة الاقتصادية - السياسية التي أفلسها العسكر مشدوهين أمام العجز الاقتصادي الهائل في بلدانهم.. فنرى على سبيل المثال لا الحصر، المجموعة التي وصلت إلى الحكم في تونس تقف أمام الاستحقاق الاقتصادي دون أن تعرف أي الطرق تسلك.. أهو طريق الآيديولوجيا القادمة من التاريخ المشوشة المنطق، وتحاول إسقاطها على الحاضر من أجل أن تستنبط منها ما يلائم القيام بالمهمات الاقتصادية العاجلة، وهي تشغيل العاطلين وتعميق برامج التعليم وتوزيع ثمار التنمية؟ كل ذلك يتطلب البعد عن الرومانسية التاريخية التي كانت تقول بها المعارضة سواء كانت في اليمين أو اليسار. فالسياحة ركن مهم من أركان الموارد ولها شروط اقتصادية واجتماعية واجب الخضوع لها، كما أن تدفق رأس المال الخارجي المطلوب بإلحاح للمساعدة له شروط قانونية وسياسية واجتماعية واجبة لا فكاك منها.. بالخضوع لها تفكك الآيديولوجيا من هيكلها الجامد، ولعل المثال التونسي يشابه إلى حد كبير المثال المصري، وأيضا المثال الليبي واليمني وإن اختلفت بعض العوامل المحلية، كما يمكن أن ينطبق على المثال السوري في المستقبل، أي إن ضرورات الاقتصاد سوف تميع متركزات الآيديولوجيا.

هنا نجد أن التصور الآيديولوجي للحكم الجديد يتصادم مع المتطلبات الأولى لفك أحزمة البؤس العربية حول المدن التي تكاثرت في العقود الثلاثة الأخيرة تكاثر الفطر في أرض رطبة في بلاد laquo;الربيعraquo;. والحق يقال إن ذلك التكاثر ليس حكرا عليها. والمعسول من التمنيات لا يغني عن الخبز في نهاية اليوم الشاق لـlaquo;الربيع العربيraquo;، وهناك اليوم أصوات تقول لقد انتهى laquo;الجهاد الأصغرraquo; فحي على laquo;الجهاد الأكبرraquo;، إلا أن الجهاد الأكبر المطلوب لا يشتمل على تصور حقيقي وواقعي لحل المشكلات الإنسانية المتراكمة، وما هو ممكن أن يسير باتجاه عكسي لما كان متخيلا، وقد قبل شعبيا من قوى حملتها المعارضة المناهضة لأنظمة العسكر السابقة.

من هنا فإن الضحية الأولى لهذا التعارض بين ما قد قيل على الورق، وأطعم الجماهير الشعارات، وبين الواقع المعيش، الضحية الأولى في تصوري هي الحريات بمعناها الواسع، فليس أمام القوى الحاكمة الجديدة إلا إطعام الجماهير مؤقتا المزيد من الشعارات التي تغلب شعارات حق المحرومين في ما استحوذ عليه الطغاة السابقون، ولكن هذه الشعارات قصيرة الأمد، وقد يلجأ الحكام الجدد من أجل البقاء في أماكن السلطة العالية إلى سلب الحريات شيئا فشيئا وتغير التوجهات عن طريق إثارة الغرائز الفاشية ضد الشريك في الوطن أو الآخر خارج الحدود.

في المدى القصير قد تنجح تلك الاستراتيجية في إلهاء الناس، حيث يكون هناك بقية من سخط على أنظمة العسكر المتهاوية، ولكنها في المدى المتوسط والطويل النسبي سوف تجد نفسها في نفس موقع العسكر السابقين، الخبز مقابل الحرية الأقل. أكتب هذا لأقول إننا أحوج ما نكون اليوم ndash; كعرب ndash; إلى فتح باب النقاش على مصراعيه، نقاش يرتكز على محاولة البحث عن إجابات عن أسئلة مركزية يتقدمها السؤال الأهم، وهو: كيف توازن الأنظمة الجديدة بين توفير الخبز وتوفير الكرامة في آن واحد؟ يبدو السؤال للبعض جانبيا، ولكنه هو سؤال القرن الحادي والعشرين العربي.. فهل من مجيب؟

آخر الكلام:

ليس بالضرورة أن يستبدل بالحكم السابق حكم أفضل منه، وما هو قابل للمقارنة الحكم الجديد في بغداد.. لقد استبدل بحكم طاغية متغطرس، حكم طغيان فئوي يستبد بالمواطنين حسب انتمائهم الطائفي.