محمد صالح المسفر


كنت في الأسبوع الماضي وفي هذه الزاوية كتبت مقالة بعنوان quot;خطيب الجمعة والدور المطلوبquot;؛ وذكرت فيما ذكرت أن البعض يتناول الرافضة في خطبهم وفي الجانب الآخر البعض يتناول النواصب بنقد غير موضوعي. هذا الخلاف تعود جذوره إلى أكثر من ألف وثلاثمائة سنة ولسنا بصدد الدعوة إلى تغيير مواقف، وقلت إنه من غير الممكن أن يكون المسجد محل دعوة لغرس بذور الطائفية والفتنة، نعم هناك خلاف فقهي يتبعه خلاف سياسي بين المذاهب الإسلامية ولكن علاجه لا يمكن أن يكون من على منابر المساجد، أمتنا العربية في حاجة ماسة إلى مواجهة العدو الحقيقي لهذه الأمة وهو الثالوث quot;التخلف والتبعية والتجزئةquot; وكذلك الصهيونية والإمبريالية الاقتصادية، ومع الأسف الشديد راح البعض من خطباء المساجد يمعنون في تناول الخلافات المذهبية وبكلمات غير مقبولة دون وعي بعواقب الأمور في الظروف التي نمر بها اليوم.
لم يقف الأمر ــ عند البعض من الخطباء زادهم الله علما على علمهم ــ عند هذا الحد بل راحوا يتناولون المسيحيين واحتفالاتهم والحط منها وتكفير كل من تبادل معهم التهاني في مناسباتهم تلك، كل ذلك يكون على منابر الجمعة وعن طريق مكبرات الصوت خارج المسجد قد يأخذ الحماس بعض الخطباء ويجهر بالصوت بالتكفير والإنكار على هؤلاء الناس وقد نسيوا أن هناك العديد ممن يعيش بيننا منهم وبجوار المساجد ويسمعون ما يقال عنهم وكذلك صغارهم يسمعون ألم يفكر خطبانا غفر الله لنا ولهم بعواقب الأمور؟
لست أدري ما إذا درس هؤلاء الخطباء دور المسيحيين العرب في الدفاع عن الأرض المقدسة فلسطين وبلاد الشام عامة وما فعله أقباط مصر دفاعا عن مصر تحت الحكم الإسلامي عند دخول الإسلام لأؤل مرة في ديار مصر، نعم هم يكفرون بما أنزل على محمد عليه السلام ونحن نؤمن بما أنزل على الأنبياء والمرسلين في أصله لا في تعديلاتهم كانت النصرانية في الحبشة أول من حمى المهاجرين المسلمين من اضطهاد أهل مكة مهبط الوحي والطائف، خطيبنا جزاه الله خيرا تناول في خطبته النجاشي النصراني بالذكر الطيب لكنه اشتط لينال من المسيحية والمسيحيين دون علم مبين.
فيما يلي انقل عن (صحيفة العرب في 17 / 1 / 2012) مقتطفات من رسالة نصراني من أهل الشام (ميشيل كيلو) إلى الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن ربما تكون شاهدا على ما أقول، تقول الرسالة: quot;السيد الرئيس هذه الرسالة يبعث بها إليك مواطن عربي تقول شهادة ميلاده إنه مسيحي. سأكون صريحاً معك إلى أبعد حد في هذه النقطة، لأن النتائج التي ستترتب على ما تسمونه laquo;صراع الحضارات أو الثقافاتraquo; ستكون وخيمة على البشرية بأسرها، وكارثية بالنسبة لكم، ولنا، إلى درجة يستحيل تصورها. لو قرأت، سيادة الرئيس، التاريخ، أو كلفت أحد مساعديك بقراءته، لاقتنعت أن هزيمة الإسلام والمسلمين مستحيلة، ولوجدت أن أحدا لم يتمكن على مر التاريخ من إنزال هزيمة حاسمة ونهائية، كالتي تريدها أنت، بهما، سواء تعلق الأمر بالفرس والروم، إمبراطوريتي الشرق القديم، أم بالصليبيين والمغول، قوتي العصر الوسيط الرئيسيتين أم بالقوى الاستعمارية الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين.
لقد هزم الإسلام إمبراطوريتي العالم القديم فور ولادته، وهزم المغول والصليبيين لحظة بدأت إمبراطوريته تنحدر، وهزم إمبراطوريتي العالم الغربي وهو في عز تأخره، فماذا تفهم من ذلك؟ وهل يمكنك، كسياسي مسؤول، القفز عن الحقيقة، وهي أن الإسلام كان على مر التاريخ عصياً على الهزيمة؟.
دعني أقل لك شيئاً آخر، هو أن شعوراً من الزهو يجتاح كياني، لأنني ابن هذا التاريخ، الذي اكتشف أجداده وآباؤه واخترعوا جميع المفردات التي قامت عليها الحضارة البشرية: من اختراع النار، إلى اختراع العمل وأدواته، إلى صهر المعادن، إلى الزراعة، إلى تدجين الحيوانات إلى التفكير المجرد، إلى اللغة، إلى الأرقام، إلى الدين، إلى الكتابة وبناء القرى والمدن... إلخ. فهل تصدق أنني يمكن أن أتعلم الحضارة على يدي السيدين برلوسكوني وروبرتسون أمين عام الحلف الأطلسي، أنا الفخور بأنني ابن الدين الإسلامي والحضارة التي أنجبها، وابن اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية الفريدة، التي تجعلني مواطناً عربياً ملأ نفسه الإسلام وقيمه الإنسانية والأخلاقية، وملأ نفسه كذلك التاريخ المشترك الذي صنعه مع المسيحية، وقام على التسامح الديني، الذي مكن المسيحيين العرب من حفظ دين آبائهم وأجدادهم، وعلى تفاعل العروبة التاريخي داخل حاضنة الدينين الشقيقين، التي كونت روحه، وحددت هويته، وجعلت منه عدوا لمن يعاديهما، لن يحجم عن القتال ضدكم، وعن الموت دفاعا عن الحضارة العربية الإسلامية التي أنجباها.
أنتم، سيادة الرئيس، لا تعرفون استحالة فصل ما هو مسيحي عما هو إسلامي في تكويننا، ولا تدرون كم امتزج هذان الدينيان في نفوسنا، وكم طبعت مسيحيتنا الإسلام بطابعها وانطبعت بطابعه. وتجهلون أن مسيحيتكم غريبة عنا، لأنها أيديولوجياً سوغت نهب الشعوب وظلمها، وتنكرت، في نظرنا، لذلك الناصري العظيم، الذي عاش على المبادئ والقيم، ومات من أجلها ومن أجل البشر.
دعني أطلب إليك، الآن، التفكير بحقيقة أن مسلمين عاديين، ليسوا إرهابيين وليسوا متعصبين، تركوا إندونيسيا وطنهم الأصلي، وجاءوا إلى فلسطين لمقاتلة الصليبيين، وأن بعضهم سار خمسة عشر عاما قبل أن يبلغ ميدان المعركة. دعني أخبرك أيضاً أن المسيحيين العرب رأوا في الإسلام عقيدة حررتهم من الرومان، المسيحيين مثلهم الذين كانوا يشبعونهم اضطهادا وظلماً. وأنهم شاركوا في فتوح إخوانهم المسلمين وغزواتهم، خاصة ضد الفرس، وقاتلوا الصليبيين، الذين ذبحوا منهم عشرات الآلاف في أنطاكية والرها والقدس واللاذقية وطرابلس ودمشق... إلخ. كما قاتلوا الاستعمار الحديث إلى جانب إخوانهم المسلمين.
إذا قرأ مساعدك التاريخ الحديث فسيخبرك أن المسلمين كانوا يفتحون مساجدهم للصلاة على موتى المسيحيين، في المدن السورية التي لم يكن يوجد فيها كنيسة، وأن هؤلاء كانوا يرفعون الصليب في المسجد وينشدون تراتيلهم الدينية بحرية، باعتبار أن المسجد كان، في تلك اللحظة، كنيستهم. سيخبرك مساعدك أيضاً أن شيوخ المسلمين يسيرون اليوم، مثلما ساروا دائما، وراء موتى المسيحيين، وأنهم يتقبلون مع ذويهم العزاء فيهم، ويقرأون الفاتحة على أرواحهم، ويسمون قتلاهم في الحروب شهداء. سيقول مساعدك لك أيضا إن فارس الخوري، المسيحي الدمشقي، مندوب سوريا اللاحق في الأمم المتحدة ورئيس وزرائها ومجلسها النيابي، كان يقف على منبر الجامع الأموي بدمشق، ليلقي خطباً وطنية ضد الفرنسيين تحض مواطنيه على النضال ضدهم وإخراجهم من سوريا.
آخر القول: إنني أدعو كل خطباء المساجد أن يمعنوا النظر في دراسة التاريخ خاصة تاريخ الأديان والمذاهب ويختاروا منه ما يوحِّد أمتنا العربية ويؤلف بين مذاهبها وعقائدها.