حسن حنفي

كثرت الفتاوى الشرعية من بعض مشايخ الفضاء وفقهاء الإعلام بعد ثورة يناير عن حرمة قتل المتظاهرين، وإسالة دماء الأبرياء، وقتل العزل ودهسهم بالعربات، وضرورة تقديم المسؤولين عن ذلك للقضاء. وتقوم فتاوى أخرى على منطق التحليل والوجوب ولكن أيضاً بعد وقوع الواقعة مثل وجوب الحوار الوطني بين فرق الأمة. وأصبح كل المشايخ والمفتين من أنصار الحوار بدل التكفير. فقد آخى الرسول، صلى الله عليه وسلم، بين المهاجرين والأنصار، والأوس والخزرج، ومنع الاقتتال بين القبائل بسبب من يضع الحجر الأسود بوضعه هو في عمامته بعد فرشها وترك كل قبيلة تحمل طرفاً. فأين كان هؤلاء المفتون والنظام السابق في ذروة عنفوانه وظلمه؟

أين كان الفكر الديني الثوري قبل وقوع ثورة يناير؟ والآن امتلأت به البرامج الدينية، وبرامج الفضاء، وصفحات الفكر الديني. انقلب مئة وثمانين درجة مثل الإعلام الرسمي من تبرير النظام السابق، أو الحديث فيما لا ينفع الأمة بل يضرها، إلى إعلام ثوري بنفس المشايخ ونفس رجال الدين، أفندية أو أصحاب لحى. كان إعلام الثورة نادراً قبل الثورة وأصبح هو الغالب بعد الثورة. وكانت المعارضة السياسية في القوى السياسية العلمانية أكثر منها في رجال الفكر الديني.

والتحدي الآن أمام الفكر الديني هو أن يكون ثوريّاً قبل الواقعة وليس بعدها. يبادر بنقد الواقع ولا يبرر تغييره إذا أتى من خارجه، من شباب الثورة أو من التيارات العلمانية. وقد تحدث الواقعة طبقاً لما ينادون به. التحدي الآن هو أن يسبق الفكر الديني حدوث الوقائع ويعمل على وقوعها في سبع قضايا رئيسية:

أولاً: توجه المفتين إلى المطالبة بمزيد من الحرية للوطن، وإلغاء تقديم المدنيين للقضاء العسكري، وتنصيب رؤساء الصحف بالانتخاب وليس بالتعيين، والإفراج عن المعتقلين السياسيين. وهذا يتطلب البحث عن أوضاع الحريات العامة في البلاد من أجل سبقها والدفاع عنها. والمناداة بتحقيق ما نقص منها لا تبريراً لما تم فيها باسم الإسلام.

ثانيّاً: أين الفتاوى السابقة على حركات التحرر الوطني في فلسطين مثلاً قبل قيامها بالفعل؟ وما مسؤوليات الأمة من أجل تحرير الأرض بفكر شرعي علمي وليس بمجرد خطابة تعود عليها الناس حتى أصبحت بضاعة للخطباء؟ لماذا ترك فقه الأولويات وعقد البرامج الدينية حول الحلال والحرام في كل صغيرة تركها الشرع عفواً وترك الفتاوى ضد الاحتلال؟

ثالثاً: المناداة بتحقيق أكبر قدر ممكن من المساواة والعدالة الاجتماعية والكشف عن حياة ملايين المصريين في النجوع والعشوائيات والمقابر ومنازل الصفيح في مقابل فخامة quot;فيلاتquot; التجمع الخامس والمدن الجديدة. وكيف تكون الزكاة في هذا التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، وفي المال حق غير الزكاة؟ ما هو الحد الأدنى والحد الأعلى للأجور المسموح به شرعاً، ويُطرح الآن أن يكون واحداً إلى خمسة وثلاثين ضعفاً، أي ألف جنيه الحد الأدنى المسموح به بحكم القضاء إلى خمسة وثلاثين ألفاً؟ ألم يكن أمير المسلمين آخر من يأكل وآخر من يشرب وآخر من يلبس وآخر من يسكن؟ ألم يحرم عمر على نفسه الزيت عام المجاعة حتى تقيحت معدته؟ وأين مثال أبي ذر الغفاري الذي رفض التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء حتى نفي إلى الربضة. عاش وحيداً ومات وحيداً.

رابعاً: أين الفتاوى في وحدة الأمة وضرورة الدفاع عنها ضد محاولات تجزئتها العرقية والطائفية التي تهدد وحدة الأوطان كما حدث في السودان والصومال والعراق وهو ما زال يهدد المغرب العربي بل ومصر بين طوائف وقبائل التي عرفت وحدتها من بداية تاريخها حتى ثورتها أول هذا العام؟ لماذا لا يتقدم المشايخ بفتاويهم حول الحدود والصراعات الأهلية وإغلاق الحدود بين الجارتين مثل المغرب والجزائر؟ لماذا لا يبدؤون بالمبادرة والمسيرات الوطنية حول الحدود من أجل عبورها باسم وحدة الأمة؟

خامساً: أين الفتاوى السابقة حول التنمية المستقلة في أمة تجمعت لديها الثروات والأراضي والمياه والسواعد والعقول كي تكون مكتفية بذاتها بدلا من الاعتماد على المعونات الخارجية وشروط البنوك الدولية؟ فتصدر أكثر مما تستورد كما تفعل الصين وماليزيا. لماذا لا تصدر الفتاوى بعودة كل العلماء المهاجرين إلى الداخل والبناء بالداخل بدلاً من البناء في الخارج، وإثارة حمية الانتماء إلى الأوطان والعمل على نهضتها؟ فالحياة ليست مجرد كسب مادي، العمل لدى من يدفع أكثر.

سادساً: لماذا لا تصدر الفتاوى لحماية هوية الأمة بدلاً من استقطابها غرباً أو شرقاً دون الانغلاق على الذات؟ والهوية ليست شعائرية مظهرية شكلية بل هوية واعية تمنع من الاغتراب والتميع وتقليد الآخر في ثقافته وأسلوب حياته بدلاً من التمسك بخصوصية الأنا المبدعة التي استطاعت تكوين حضارة من المغرب إلى الصين، وأصبحت معلمة البشر في العلوم والصناعات وأحد روافد النهضة الأوروبية الحديثة التي بدأت تستقطب الأمة باعتبارها النموذج الأوحد، ونسيان روافدها في الحضارة الإسلامية وحضارة الشرق القديم. لماذا لا تصدر الفتاوى ضد هذا التنافر في أساليب الحياة والإسكان والتعليم حتى أصبحت بعض مدننا مشوهة لا هي غربية ولا شرقية إلا في أحيائها القديمة؟ ونافس التعليم الخاص التعليم العام. وعادت الأنجلوفونية والفرانكفونية من جديد من أجل الحداثة والدخول في نظام العالم الجديد.

سابعاً: كيفية حشد الجماهير وتحويل الكم إلى كيف. فالأمة فوق المليار من المسلمين، سدس سكان العالم، ولاتزال في الركاب عكس الصين والهند. إن الملايين في إندونيسيا وباكستان والهند وأواسط آسيا وتركيا ومصر والعرب والأفارقة لقادرون على جعل الأمة في مصاف الأمم المتقدمة. لماذا لا يتحول غثاء النحل إلى جماعات مبدعة تستطيع قيادة العالم بدلاً من أن تكون مقودة؟

هذه هي ميادين الفتاوى قبل أن تقع. يُبادر بها بدلاً من أن تنتظر الحلول من غيرها كما يحدث في برامج quot;العلم والإيمانquot;، العلم من الغرب والإيمان لدينا. فنكسبهم مرتين بالعلم والإيمان. والغرب يخسر الإيمان ثم يخسر العلم لأنه دون إيمان. لماذا لا تدافع الفتاوى عن التعددية الفكرية، والرأي والرأي الآخر دون تكفير أو استبعاد أو استحواذ من الجماعات الدينية المنظمة؟ لماذا لا تدافع عن الفكر النقدي في مقابل الفكر التبريري، وتتبناه وتحميه دون أن تفصل أو تستبعد من يقومون به؟ فالنقد الذاتي سابق على نقد الآخر. والفكر الإسلامي سباق للجميع. هو الذي يتصدى للمصالح العامة ولمسار الأمة في التاريخ. حينئذ يجد نفسه متحداً مع الفكر العلماني من أسفل وليس من أعلى، الأطر والتصورات والمفاهيم النظرية. فأفضل عمل مشترك هو ما يتم في ساحة الواقع. والعمل يوحد بقدر ما يفرق النظر (وقل اعْمَلوا).