عمّار علي حسن

يعد تقييم الثورات العربية الآن أمراً فيه قدر كبير من التجني والتسرع في آن واحد. ولكن ما يمكن قوله الآن، ومن دون مواربة، هو أن النظم الحاكمة في بعض البلدان العربية لم تكن عادية، ولا رخوة، كما ظن كثيرون. فالدول هي التي ضعفت وتراخت بينما تقوت النظم بشكل لافت. وهناك أمور ثلاثة تعوق تقدم الثورات العربية لتبلغ أهدافها مكتملة غير منقوصة هي:

1 - قيام السلطات العربية الحاكمة بدمج الدولة في بنية النظام. فالمؤسسات التي كان من المفترض أن تعمل لصالح الدولة المستمرة الراسخة منذ آلاف السنين على ضفاف النيل وأرض الشام وبلاد اليمن السعيد استأثر بها النظام، وسخرها لصالحه، وأعاد إنتاج الظاهرة التي تخلصت منها أوروبا بفعل ثوراتها السياسية والفكرية والمتمثلة في اختزال الدولة في شخص الزعيم، التي كانت تعبر عنها جملة دالة في التاريخ قالها ملوك كثر وتصرف آخرون على أساسها وإن لم يتفوهوا بها وهي: quot;أنا الدولةquot;.

وحين اندلعت الثورات رفعت شعار quot;الشعب يريد إسقاط النظامquot;، ولم يدرك الثوار وقتها، في الغالب الأعم، أن إسقاط النظام قد يضعنا على حواف quot;إسقاط الدولةquot;، وأن المسألة تحتاج إلى مبضع جراح وليس معول فلاح، أي تحتاج إلى قدر كبير من الحذر والحرص والاحترافية في الإجهاز على النظام الحاكم توطئة لبناء نظام جديد، وهذه هي الغاية الأساسية للثورات، التي تمكنها من إنجاز التغيير الجذري المطلوب.

لقد وجد الثوار في ليبيا أنفسهم في مواجهة جيش يقود فرقه وألويته الأساسية أبناء رئيس الدولة الذي يريدون إسقاطه، ووجدوا أن مؤسسات البلاد ومقدراتها كلها متصلة بمصالح هذا الرئيس وأهوائه. ولم يأخذ أهل تونس ومصر وقتاً طويلًا حتى أدركوا أن امتداد بصمة بن علي ومبارك أبعد من القشرة الخارجية أو الطابق العلوي في بناء السلطة. فأجهزة الأمن والبيروقراطية تم تصميمها لخدمة معادلة quot;الاستقرار والاستمرارquot; التي لا تعني في معناها النهائي سوى إبقاء الزعيم على عرشه حتى يلقى الله، وبعده قد يرثه ابنه كما كان يخطط مبارك وصالح والقذافي، أو زوجته كما قيل عقب هروب بن علي.

وعملية التوريث التي تمت في سوريا، وكان يجهز لإتمامها في مصر وليبيا واليمن، هي أحد الدوافع الرئيسية التي أدت إلى دمج الدولة في النظام، حتى يمكن التحكم في كافة المخرجات التي تنتجها التحولات السياسية بما يحقق هذا الهدف المريض.

2 - لم تكن نظم الحكم العربية عادية، كتلك النظم التي تتعاقب على إدارة الدول الديمقراطية. فطول بقاء الزعماء في الحكم جعلهم بمرور الزمن يقيمون شبكة متينة حولهم من أصحاب المنافع والمصالح، الذين يربطهم بأهل السلطة حبل سري غليظ. وهؤلاء شكلوا ما يمكن أن نسميها quot;زبائنية سياسيةquot; تتشكل من كبار العسكر، وكبار رجال الجهاز البيروقراطي، وأصحاب الحظوة من رجال الأعمال، وكبار الملاك ووجهاء الريف، وبعض المثقفين والإعلاميين المستفيدين من السلطة، الذين يشكلون بوقاً لها. وهؤلاء ليسوا مجرد مجموعات قليلة، إنما تقوم حولهم جموع غفيرة من المنتفعين الصغار الذين يؤمنون إيماناً جازماً بأن ما هم فيه من إمكانات ما كان يمكن أن يصل إليهم لولا شبكة الفساد الواسعة التي تشملهم بعنايتها ورعايتها.

وحين تندلع الثورة وتسقط رأس النظام الحاكم فإن هذه quot;الزبائنيةquot; تتوارى قليلًا، أو تنحني مؤقتاً للعاصفة، فإن تراخت قوة الدفع الثوري، يطلون برؤوسهم من جديد، ويحاولون قدر استطاعتهم إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، وإعادة الأوضاع السائدة إلى سابق عهدها مع بعض التغييرات الطفيفة أو الإصلاحات الشكلية.

ويستخدم هؤلاء في محاولتهم تلك ما حازوه من مصادر وروافد القوة، سواء كانت القوة العددية للطفيليين المرتبطين بهم، أو القوة المادية التي تخلقها الثروات الطائلة التي جمعوها من وراء النظام الذي قامت ضده الثورة.

3 - لا تزال الدولة العربية في الغالب الأعم خارج إطار التحديث والحداثة. ففي مصر وتونس تمكن الثوار من إسقاط رأسي النظامين الحاكمين بانتفاضتين سلميتين استغرقتا وقتاً قصيراً قياساً إلى القدرات البوليسية الفائقة لنظامي مبارك وبن علي. ويعود هذا بالأساس إلى أن كلتا الدولتين تعيشان حالة من التحديث النسبي، الذي حرم النظامين من تعبئة الموارد التقليدية التي توفرت لعلي عبدالله صالح ومعمر القذافي وبشار الأسد. فالأول عبأ القبيلة، والثاني استعان بالمرتزقة عوضاً عن غياب الجيش النظامي الحديث، أما الثالث فيستعمل الطائفة العلوية بقدراتها وهيمنتها على المؤسسة العسكرية إلى جانب مؤسسة حديثة اسماً وتقليدية مضموناً ومعنى وهي quot;حزب البعثquot;.

وعلاوة على هذه التقليدية التي تم توظيفها في التصدي للثوار، فإن الدول التي شهدت ثورات ورث ثوارها تركة ثقيلة خلفتها النظم الفاسدة المستبدة، فوقعت هذه الحمولات الزائدة على قوة الدفع الثوري فأدت إلى تباطؤها، وذلك نظراً لأمرين أساسيين: الأول هو أن قوة الثورة المضادة استغلت هذه التركة في تحميل الثورة مسؤولية الإرباك الأمني والمشكلات الاقتصادية الطارئة والغموض السياسي. والثاني هو الانطفاء السريع لـquot;ثورة التطلعاتquot; التي ولدت في نفوس وعقول الجماهير التي عولت على الثورة في انتشالها من الفقر إلى الغنى ومن المهانة إلى الكرامة. وهذا الانطفاء لم يتحول إلى فعل محايد وإنما صار quot;ثورة إحباطاتquot; وتلك تؤدي تباعاً إلى انفضاض الناس عن الثورة، وهذا موقف مؤثر سلبيّاً، من دون شك، لاسيما في ثورات شعبية، اعتمدت في نجاحها على ضخامة الحشد، وانخراط قطاعات عريضة من المجتمع فيها. ومثل هذا الوضع جعل كثيرين يطالبون بتوصيف سليم للمشهد، أو لما جرى، للوقوف على حقيقة ما إذا كان مجرد دفعة إلى تغيير ما وإصلاح محدود؟ أم هو ثورة شاملة أي تغيير جذري قد يتأخر لكنه سيأتي؟ أم أننا أمام انقلابات مقنعة؟ أم أن النظام القديم سيعاد إنتاجه بوجوه جديدة، لا أكثر ولا أقل؟... الإجابة لا تزال في رحم الغيب.