بدرية البشر

تثير ظاهرة السعوديين السياح الفضول والمراقبة في معظم البلدان التي يأتون إليها، وقد يكون السبب أننا أكثر دول الخليج كثافة وأكثر عدداً، وربما لأننا الأكثر بعداً عن الظهور في الشارع العام وبالتالي الأكثر إثارة للفضول، وربما لأنهم أكثر هذه الدول التي تخرج بتناقضاتها بين الداخل والخارج. ها هي عطلة الربيع جاءت لتعيد إلى أذهاننا السؤال الذي يثيره خروج السعوديين من بلادهم سائحين في بلاد الله: laquo;ماذا يفعل السعوديون حين يسافرون؟raquo;.

في دبي أعلنت بعض الإحصاءات أن ٤٠ في المئة من السياح الذين خرجوا من السعودية جاؤوا إلى دبي، وبلغ عددهم في رواية قرابة الـ٤٠٠ ألف سائح سعودي، وفي رواية أخرى قاربت ٩٠٠ ألف، وفي كلتا الحالتين يعتبر هذا الرقم عدداً كبيراً في مدينة صغيرة مثل دبي جعلت نسبة إشغال الفنادق والشقق السكنية تبلغ ١٠٠ في المئة، وتجعل السياح السعوديين ملحوظين أينما ذهبوا.

حين توقفت عند مقهى في مركز دبي للتسوّق التقيت بسيدة سعودية تشتري مثلي كأس قهوة على عجل، فقالت لي وهي تشير إلى طاولات القهوة المكتظة انظري هؤلاء هم السعوديون الذين يرفضون الاختلاط إلى أي حد يختلطون. كانت الطاولات قريبة جداً من بعضها بلا حواجز، نظرت فوجدت جماعة رجال ملتحين يجلسون وينغمسون في أحاديث حميمية سعداء بلقائهم وحديثهم، وعلى طاولات أخرى نساء أخريات منقبات ومحجبات يتسلين بشرب القهوة والحديث. ثم أنظر فأجد أطفالاً تحت شرفة حلقة التزلّج. يتزلجون بأحذيتهم على سطح الجليد، وآباءهم وأمهاتهم يراقبونهم ويلتقطون لهم الصور في سعادة بالغة. نساء هنا وهناك بصحبة أزواجهن يتسوقون، وهناك في ركن الطعام يأكلون طعامهم، وربما أنها من المرات النادرة التي تعيش بعض العائلات السعودية طقس اجتماع العائلة، الأب يجلس مع أبنائه وزوجته على مهل، يتعرف عليهم، ماذا يحبون، بماذا يتميزون، يستمع لطرائفهم ونوادرهم، ويلتفت لتعليقات زوجته بعيداً عن المطبخ وغرفة التلفزيون. لماذا يعتبر السعوديون أن قضاء وقت في مركز التسوّق بحد ذاته سياحة؟ ولماذا يعد هذا طقساً جديداً عليهم؟ لأنه وبكل بساطة يكتشف السعوديون أن الحواجز تسقط بينهم، ليس فقط الحواجز النفسية بل والمكانية، ويصبحون في طابق واحد وليس في طابقين لا حواجز تعزل أحدهما عن الآخر الرجال عن النساء والشباب عن العائلات والعائلات عن الرجال.

نكتشف أننا مجتمع من طابقين ليس فقط في الحيّز المكاني بل وفي الحيّز العقلي، فنجعل من ممارسات تجوز خارج البلاد وممارسات لا تجوز داخل البلاد، وكلها للأسف لأننا نضع أنفسنا في تقدير منخفض من الثقة والفهم والوعي، فشبابنا قليل التهذيب صعب الانضباط في بلادنا مهذب ومنضبط في الخارج، نساؤنا قادرات خارج بلادنا عاجزات في بلادنا، فتياتنا فطنات خارج بلادنا قليلات الحيلة محتاجات للحماية داخلها. ولهذا نحن سعداء في الخارج مكتئبون في الداخل. وهذه كلها بالطبع افتراضات غير دقيقة.

ليس لي مثال يفسّر سبب كوننا مجتمعاً من طابقين سوى مثال حكته لي صديقة القهوة، تقول إن ابن أختها الصغير سألها حائراً أي جواب يختار، فالمعلم يضع ثلاثة خيارات عن حكم سماع الأغاني؟ هي جائز ومكروه وحرام. والمعلم لا يعطيه علامة كاملة إلا على جواب واحد فقط هو حرام، بينما هو يعرف أن الأغاني تدخل في حكم متعدد بين الجائز والمكروه والحرام. قالت له خالته الحكيمة ضع حراماً كما يريد الأستاذ ولو اعتقدت غيره.

ليس هناك في الداخل غير جواب واحد، وحين نخرج فإن للحياة أحكاماً متعددة، وكلٌّ له الخيار على ما يطيق الصبر عليه. لهذا نشاهد شيخاً يجلس بصحبة عائلته في قهوة في دبي مطمئناً، لكنه لا يقوى على قول هذا في مدينته لأنه من الحرام. ضع دائماً الجواب الذي يرضى عنه الأستاذ ومارس ما تريد خارج البلاد، لهذا تأتي كثير من الممارسات متطرفة لأنها ممارسات خارج التجربة وخارج الاختبار.

لهذا سنظل مجتمعاً من طابقين وعقلاً من طابقين، ولن نعرف أبداً سماحة التعدد والاختلاف ولا حميمية الجلوس مع العائلة، وستبقى عطلنا في مدننا عابسة.